الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب القول في بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو بكر : الكلام فيها من وجوه:

أحدها: معنى الضمير الذي فيها .

والثاني : هل هي من القرآن في افتتاحه ؟

والثالث : هل هي من الفاتحة أم لا ؟

والرابع : هل هي من أوائل السور ؟

والخامس : هل هي آية تامة أم ليست بآية تامة ؟

والسادس : قراءتها في الصلاة .

والسابع : تكرارها في أوائل السور في الصلاة .

والثامن : الجهر بها .

والتاسع : ذكر ما في مضمرها من الفوائد وكثرة المعاني فنقول : إن فيها ضمير فعل لا يستغني الكلام عنه ؛ لأن الباء مع سائر حروف الجر لا بد أن يتصل بفعل إما مظهر مذكور ، وإما مضمر محذوف ، والضمير في هذا الموضع ينقسم إلى معنيين : خبر وأمر ، فإذا كان الضمير خبرا كان معناه : أبدأ بسم الله ، فحذف هذا الخبر وأضمر ؛ لأن القارئ مبتدئ ، فالحال المشاهدة منبئة عنه ، مغنية عن ذكره ، وإذا كان أمرا كان معناه : ابدءوا بسم الله ، واحتماله لكل واحد من المعنيين على وجه واحد .

وفي نسق تلاوة السورة دلالة على أنه أمر ، وهو قوله تعالى : إياك نعبد

ومعناه : قولوا إياك ، كذلك ابتداء الخطاب في معنى قوله : بسم الله وقد ورد الأمر بذلك في مواضع [ ص: 6 ] من القرآن مصرحا وهو قوله تعالى : اقرأ باسم ربك فأمر في افتتاح القراءة بالتسمية كما أمر أمام القراءة بتقديم الاستعاذة ، وهو إذا كان خبرا فإنه يتضمن معنى الأمر ؛ لأنه لما كان معلوما أنه خبر من الله بأنه يبدأ باسم الله ففيه أمر لنا بالابتداء به والتبرك بافتتاحه ؛ لأنه إنما أخبرنا به لنفعل مثله ، ولا يبعد أن يكون الضمير لهما جميعا ، فيكون الخبر والأمر جميعا مرادين ، لاحتمال اللفظ لهما فإن قال قائل : لو صرح بذكر الخبر لم يجز أن يريد به المعنيين جميعا من الأمر والخبر ، كذلك يجب أن يكون حكم الضمير في انتفاء إرادة الأمرين ، قيل له :

إذا أظهر صيغة الخبر امتنع أن يريدهما لاستحالة كون لفظ واحد أمرا وخبرا في حال واحد ؛ لأنه متى أراد بالخبر الأمر كان اللفظ مجازا ، وإذا أراد به حقيقة الخبر كان حقيقة ، وغير جائز أن يكون اللفظ الواحد مجازا حقيقة ، لأن الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضعه ، والمجاز ما عدل به عن موضعه إلى غيره ، ويستحيل كونه مستعملا في موضعه ومعدولا به عنه في حال واحد ؛ فلذلك امتنع إرادة الخبر والأمر بلفظ واحد ، وأما الضمير فغير مذكور ، وإنما هو متعلق بالإرادة ولا يستحيل إرادتهما معا عند احتمال اللفظ لإضمار كل واحد منهما ، فيكون معناه حينئذ : أبدأ بسم الله على معنى الخبر ، وابدءوا أنتم أيضا به اقتداء بفعلي وتبركا به غير أن جواز إرادتهما لا يوجب عند الإطلاق إثباتهما إلا بدلالة ؛ إذ ليس هو عموم لفظ مستعمل على مقتضاه وموجبه .

وإنما الذي يلزم حكم اللفظ إثبات ضمير محتمل لكل واحد من الوجهين .

وتعيينه في أحدهما موقوف على الدلالة كذلك قولنا في نظائره نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه لأن الحكم لما تعلق بضمير يحتمل رفع الحكم رأسا ويحتمل المأثم لم يمتنع إرادة الأمرين بأن لا يلزمه شيء ، ولا مأثم عليه عند الله لاحتمال اللفظ لهما وجواز إرادتهما ، إلا أنه مع ذلك ليس بعموم لفظ فينتظمهما ، فاحتجنا في إثبات المراد إلى دلالة من غيره ، وليس يمتنع قيام الدلالة على إرادة أحدهما بعينه أو إرادتهما جميعا .

وقد يجيء من الضمير المحتمل لأمرين ما لا يصح إرادتهما معا ، نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما الأعمال بالنيات . معلوم أن حكمه متعلق بضمير يحتمل جواز العمل ويحتمل أفضليته فمتى أراد الجواز امتنعت [ ص: 7 ] إرادة الأفضلية ؛ لأن إرادة الجواز تنفي ثبوت حكمه مع عدم النية ، وإرادة الأفضلية تقتضي إثبات حكم شيء منه لا محالة مع إثبات النقصان فيه ونفي الأفضلية ، ويستحيل أن يريد نفي الأصل ونفي الكمال الموجب للنقصان في حال واحد .

وهذا مما لا يصح فيه إرادة المعنيين من نفي الأصل وإثبات النقص ، ولا يصح قيام الدلالة على إرادتهما قال أبو بكر : وإذا ثبت اقتضاؤه لمعنى الأمر انقسم ذلك إلى فرض ونفل فالفرض هو ذكر الله عند افتتاح الصلاة في قوله تعالى : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى فجعله مصليا عقيب الذكر ، فدل على أنه أراد ذكر التحريمة وقال تعالى : واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا قيل إن المراد به ذكر الافتتاح .

روي عن الزهري في قوله تعالى : وألزمهم كلمة التقوى قال : هي بسم الله الرحمن الرحيم ؛ وكذلك هو في الذبيحة فرض ، وقد أكده بقوله : فاذكروا اسم الله عليها صواف وقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق

وهو في الطهارة والأكل والشرب وابتداء الأمور نفل .

فإن قال قائل هلا أوجبتم التسمية على الوضوء بمقتضى الظاهر لعدم الدلالة على خصوصه مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه قيل له : الضمير ليس بظاهر ، فيعتبر عمومه ، وإنما ثبت منه ما قامت الدلالة عليه ؛ وقوله " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " على جهة نفي الفضيلة لدلائل قامت عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية