الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 4 ] (فصل) قول القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعا، وإما أن يقدم السمع، وهو محال، لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا، فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول، وإما أن يفوض.

وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما، ولم يمتنع ارتفاعهما.

وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانونا كليا فيما يستدل به من كتب [ ص: 5 ] الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام، وما لا يستدل به، ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها، وظن هؤلاء أن العقل يعارضها، وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، وقد بسطنا الكلام على قولهم هذا في الأدلة السمعية في غير هذا الموضع.

وأما هذا القانون الذي وضعوه فقد سبقهم إليه طائفة، منهم أبو حامد، وجعله قانونا في جواب المسائل التي سئل عنها في نصوص أشكلت على السائل، كالمسائل التي سأله عنها القاضي أبو بكر بن العربي، وخالفه القاضي أبو بكر في كثير من تلك الأجوبة، وكان يقول: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر.

وحكى هو عن أبي حامد نفسه أنه كان يقول: أنا مزجى البضاعة في الحديث. [ ص: 6 ]

ووضع أبو بكر بن العربي هذا قانونا آخر، مبنيا على طريقة أبي المعالي ومن قبله، كالقاضي أبي بكر الباقلاني.

ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه.

وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، [ ص: 7 ] كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن، وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل.

فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، ولكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة [ ص: 8 ] الجهمية والفلاسفة فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء، وأنه صحيح عندهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية