الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              تمهيد المقدمات المحتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب وهي بضع عشر مقدمة .

              [ ص: 16 ] [ ص: 17 ] المقدمة الأولى

              إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية ، والدليل على ذلك أنها [ ص: 18 ] راجعة إلى كليات الشريعة ؛ وما كان كذلك فهو قطعي .

              بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع .

              وبيان الثاني : من أوجه : أحدها : أنها ترجع إما إلى أصول عقلية ، وهي قطعية ، وإما إلى [ ص: 19 ] الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة ، وذلك قطعي أيضا ، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما ، والمؤلف من القطعيات قطعي ، وذلك أصول الفقه .

              والثاني : أنها لو كانت ظنية ; لم تكن راجعة إلى أمر عقلي ; إذ الظن لا يقبل في العقليات ، ولا إلى كلي شرعي لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات ; إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة ; لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول ، وذلك غير جائز عادة - وأعني بالكليات هنا : الضروريات ، [ ص: 20 ] والحاجيات ، والتحسينيات - وأيضا لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة ; لجاز تعلق الشك بها ، وهي لا شك فيها ، ولجاز تغييرها وتبديلها ، وذلك خلاف ما ضمن الله عز وجل من حفظها .

              والثالث : أنه لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه ; لجاز جعله أصلا في أصول الدين وليس كذلك باتفاق ، فكذلك هنا ؛ لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين ، وإن تفاوتت في المرتبة ; فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة ، وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات .

              وقد قال بعضهم لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن ، لأنه تشريع ، ولم نتعبد بالظن إلا في الفروع ، ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب [ ص: 21 ] من الأصول تفاصيل العلل ، كالقول في عكس العلة ، ومعارضتها ، والترجيح بينها وبين غيرها ، وتفاصيل أحكام الأخبار ، كأعداد الرواة ، والإرسال ; فإنه ليس بقطعي .

              واعتذر ابن الجويني عن إدخاله في الأصول بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها داخلة بالمعنى فيما دل عليه الدليل القطعي .

              قال المازري : وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول وإن كان ظنيا ، على طريقة القاضي في أن الأصول هي أصول العلم ; لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفسها ، لكن ليعرض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر . قال : فهي في هذا كالعموم والخصوص قال : ويحسن [ ص: 22 ] من أبي المعالي أن لا يعدها من الأصول ; لأن الأصول عنده [ هي الأدلة ، والأدلة عنده ] ما يفضي إلى القطع ، وأما القاضي ; فلا يحسن به إخراجها من الأصول على أصله الذي حكيناه عنه . هذا ما قال .

              والجواب : أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعا به ; لأنه إن كان مظنونا تطرق إليه احتمال الإخلاف ، ومثل هذا لا يجعل أصلا في الدين عملا بالاستقراء ، والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نص عليها ، ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة ، وهو المراد بقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] أيضا ، لا أن المراد المسائل الجزئية ; إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ جزئي من [ ص: 23 ] جزئيات الشريعة ، وليس كذلك ; لأنا نقطع بالجواز ، ويؤيده الوقوع ; لتفاوت الظنون ، وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية ، ووقوع الخطأ فيها قطعا ، فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات ; فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا ، وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيا .

              هذا على مذهب أبي المعالي ، وأما على مذهب القاضي ; فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه ; فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها ، واختبارها بها ، ولزم أن تكون مثلها ، بل أقوى منها ، لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة ، بحيث تطرح الأدلة إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين ; فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها ؟

              ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها ; فإنها حاكمة على غيرها ; فلا بد من الثقة بها في رتبتها ، وحينئذ يصلح أن تجعل قوانين ، وأيضا ، لو صح كونها ظنية ; لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة ، وذلك غير صحيح ، ولو سلم ذلك كله ; فالاصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تجعل أصولا ، وهذا كاف في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق ، فما [ ص: 24 ] جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعا عليه بالتبع ، لا بالقصد الأول .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية