الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 125 ] قد مكر الذين من قبلهم وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل، والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهو هاهنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف، وجوز أن يرتكب فيه التجريد أي سووا منصوبات وحيلا ليخدعوا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام فأتى الله بنيانهم من القواعد أي من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر، ونقل الراغب عن بعض اللغويين أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وإن هذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه، وأصل الإتيان كما قال المجيء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر الله تعالى وروي ذلك عن قتادة، وجعل ذلك في الكشاف من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه وأفناه، وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ «بنيتهم» وهو بمعنى بنائهم يقال: بنيت أبني أبناء وبنية وبنى نعم كثيرا ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم والضحاك «بيوتهم» فخر عليهم السقف من فوقهم أي سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام بعد تهدم قواعده (ومن) متعلق بخر وهي لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة، وقال ابن عطية وابن الأعرابي إن من فوقهم ليس بتأكيد لأن العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم. ومن الناس من زعم أن على بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر من أجل كفرهم السقف وجيء بقوله تعالى: من فوقهم مع خر لدفع توهم أن يكون قد خر وهم ليسوا تحته، ولا يخفى أنه تطويل من غير طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل والكلام تمثيل يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال الله إياها وجعلها سببا لهلاكهم كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته، ووجه الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والاستيلاء صار سبب البوار والفناء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وانقلابها عليهم مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه وروجوا فيه تلك المنصوبات وتواطئوا عليه من الرأي المدعم بالمكائد، ويشبه ذلك قولهم، من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط الله تعالى أعمالهم، وقيل: الأمر مبني على الحقيقة، وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحا ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف أمرها ويقاتل أهلها وأفرط في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب فرسخين. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب : كان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع وعرشه ثلاثة آلاف ذراع فبعث الله تعالى عليه ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا، وقيل:

                                                                                                                                                                                                                                      هدمه جبريل عليه السلام بجناحه ولما سقط تبلبلت الناس من الفزع فتكلموايومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية، ولا يخفى ما في هذا الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه عاش بعد قصة الصرح وأهلكه الله تعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهارا لكمال خسته وعجزه وجازاه سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه الله تعالى بأخس الطيور، وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف ببابل هو المشهور، وفي معجم البلدان أن مدينة بابل يوراسف [ ص: 126 ] الجبار واشتق اسمها من المشتري لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري وأخربها الإسكندر، وما ذكر من أن اللسان كان قبل ذلك السريانية ذكره البغوي ونظر فيه الخازن بأن صالحا عليه السلام وقومه كانوا قبل وكانوا يتكلمون بالعربية وكان قبائل قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس يتكلمون بالعربية أيضا وقد يدفع بالعناية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الضحاك : الآية إشارة إلى قوم لوط عليه السلام وما فعل بهم وبقراهم، والكلام أيضا مبني على الحقيقة واختار جماعة بناءه على التمثيل حسبما سمعت وعليه فالمراد على المختار من الذين كفروا من قبل ما يشمل جميع الماكرين الذين هدم عليهم بنيانهم وسقط في أيديهم وقرأ الأعرج (السقف) وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ومجاهد السقف بضم السين فقط وكلاهما جمع سقف وفعل وفعل على ما قال أبو حيان محفوظان في جمع فعل وليسا مقيسين فيه ويجمع على سقوف وهو القياس. وقرأت فرقة السقف بفتح السين وضم القاف وهي لغة في السقف، وذكر أن الأصل مضموم القاف وساكنه مخففه وكثر استعماله على عكس قولهم: رجل بفتح فضم ورجل بفتح فسكون وهي لغة تميمية وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون، والمراد به العذاب العاجل، وفي عطف هذه الجملة على ما تقدم تهويل لأمر هلاكهم، ويدل على أن المراد به العاجل

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية