الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 147 ] وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرا هلا بعث إلينا ملكا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا نبعث للدعوة العامة إلا بشرا نوحي إليهم بواسطة الملك في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها، ويحترز بالدعوة العامة عن بعث الملك للأنبياء عليهم السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه لمريم للبشارة، وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة الملك كما يشير إليه قوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى: 51] وقرأ الجمهور «يوحى» بالياء وفتح الحاء. وفرقة بالياء وكسرها وعبد الله والسلمي وطلحة. وحفص بالنون وكسرها. وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى. ولما كان المقصود من الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل: فاسألوا أهل الذكر أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر [الأنبياء: 105] فأهله اليهود.

                                                                                                                                                                                                                                      قال في البحر والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا يتهمون عند أهل مكة في إخبارهم بأن الرسل عليهم السلام كانوا رجالا فإخبارهم بذلك حجة عليهم، والمراد كسر حجتهم وإلزامهم وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى إخبار هؤلاء، وقد أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يثرب يسألونهم عن ذلك، وقال الأعمش وابن عيينة وابن جبير: المراد من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                                      ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما قاله أبو جعفر وابن زيد من أن المراد من الذكر القرآن لأن الله تعالى سماه ذكرا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا، وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقا، وخصهم بعض الإمامية بالأئمة أهل البيت احتجاجا بما رواه جابر ومحمد بن مسلم منهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه قال: نحن أهل الذكر، وبعضهم فسر الذكر بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ذكرا رسولا [الطلاق: 10، 11] على قول، ويقال على مقتضى ما في البحر: كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا بأصدق من رسول الله عندهم وهو عليه الصلاة والسلام المشهور فيما بينهم بالأمين، ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقا بظاهره لمن زعمه ذلك البعض من الإمامية عن أنس قال: « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وإنه لمنافق قيل: يا رسول الله بماذا دخل عليه النفاق؟ قال: يطعن على إمامه وإمامه من قال الله تعالى في كتابه: فاسألوا أهل الذكر إلى آخره».

                                                                                                                                                                                                                                      مما لا يصح، وأنا أقول: يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى المنان، وقال الرماني والزجاج ، والأزهري: المراد بأهل الذكر علماء أخبار الأمم السالفة كائنا من كان فالذكر بمعنى الحفظ كأنه قيل: اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك إن كنتم لا تعلمون وجواب إن إما محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فاسألوا، وإما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب على الشرط. واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه السلام في المهد فإن النبوة أعم من الرسالة ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضا لأن غايته نفي رسالة المرأة، ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها، وذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد ، ولا ينافي ما دلت عليه الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: جاعل الملائكة رسلا لأن المراد جاعلهم [ ص: 148 ] رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم السلام لا للدعوة العامة وهو المدعى كما علمت فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي، وقال الجبائي: إن الملائكة عليهم السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم السلام إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما روي أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين

                                                                                                                                                                                                                                      وهو وارد على الحصر المقتضي للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيما روى على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب ، وذكر أنه نقل الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي صورة أعرابي لم يعرفوه.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بها أيضا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العام في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا سيما إذا قلنا إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيها والسؤال عنها من الأصول، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عاميا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حيا أو ميتا اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      وصحح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقا سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهدا بالفعل أو له أهلية الاجتهاد، ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين نعم ذكر العلامة ابن حجر، وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونا محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي: إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم، ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملا، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتى ولا يقضى بكل منهما لاحتمال كونه مرجوحا ويجوز العلم به وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى: فاسألوا الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليه، والصحيح ما سمعت أولا، وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد. واحتج بها أيضا نفاة القياس فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان عالما بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز. وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم فلا يجب عليه السؤال فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية