الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين ( 56 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " ، لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها ، وذلك هو الفساد فيها .

وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى ، وبينا معناه بشواهده .

" بعد إصلاحها " يقول : بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته ، بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحق ، وإيضاحه حججه لهم " وادعوه خوفا وطمعا " ، يقول : وأخلصوا له الدعاء والعمل ، ولا تشركوا في عملكم له شيئا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك ، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه . وإن من كان دعاؤه إياه على غير ذلك ، فهو بالآخرة من المكذبين ، لأن من لم يخف عقاب الله ولم يرج ثوابه ، لم يبال ما ركب من أمر يسخطه الله ولا يرضاه " إن رحمة الله قريب من المحسنين " ، يقول تعالى ذكره : إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا ، قريب منهم ، وذلك هو رحمته ، [ ص: 488 ] لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعد لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم .

ولذلك من المعنى ذكر قوله : " قريب " ، وهو من خبر " الرحمة " ، و " الرحمة " مؤنثة ، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النسب ، والأوقات بذلك المعنى إذا وقعت أخبارا للأسماء ، أجرتها العرب مجرى الحال ، فوحدتها مع الواحد والاثنين والجميع ، وذكرتها مع المؤنث ، فقالوا : " كرامة الله بعيد من فلان " ، و " هي قريب من فلان " ، كما يقولون : " هند قريب منا " ، و " الهندان منا قريب " ، و " الهندات منا قريب " ، لأن معنى ذلك : هي في مكان قريب منا . فإذا حذفوا المكان وجعلوا " القريب " خلفا منه ، ذكروه ووحدوه في الجمع ، كما كان المكان مذكرا وموحدا في الجمع . وأما إذا أنثوه ، أخرجوه مثنى مع الاثنين ، ومجموعا مع الجميع ، فقالوا : " هي قريبة منا " ، و " هما منا قريبتان " ، كما قال عروة [ بن الورد ] :


عشية لا عفراء منك قريبة فتدنو ، ولا عفراء منك بعيد



فأنث " قريبة " ، وذكر " بعيدا " ، على ما وصفت . ولو كان " القريب " ، من " القرابة " في النسب ، لم يكن مع المؤنث إلا مؤنثا ، ومع الجميع إلا مجموعا . [ ص: 489 ]

وكان بعض نحويي البصرة يقول : ذكر " قريب " وهو صفة ل " الرحمة " ، وذلك كقول العرب : " ريح خريق " ، و " ملحفة جديد " ، و " شاة سديس " . قال : وإن شئت قلت : تفسير " الرحمة " هاهنا ، المطر ونحوه ، فلذلك ذكر ، كما قال : ( وإن كان طائفة منكم آمنوا ) ، [ سورة الأعراف : 87 ] ، فذكر ، لأنه أراد الناس . وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث ، كقول الشاعر :


ولا أرض أبقل إبقالها



وقد أنكر ذلك من قيله بعض أهل العربية ، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكر " قريبا " ، توجيها منه للرحمة إلى معنى المطر ، أن يقول : " هند قام " ، توجيها منه ل " هند " وهي امرأة ، إلى معنى : " إنسان " ، ورأى أن ما شبه به قوله : " إن رحمة الله قريب من المحسنين " ، بقوله : " وإن كان طائفة منكم آمنوا " ، غير مشبهه . وذلك أن " الطائفة " فيما زعم مصدر ، بمعنى " الطيف " ، كما " الصيحة " و " الصياح " ، بمعنى ، ولذلك قيل : ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) ، [ سورة هود : 67 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية