الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات، خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقال عز قائلا: وقال الله عطفا على قوله سبحانه: ولله يسجد وجوز أن يكون معطوفا على وأنزلنا إليك الذكر وقيل: إنه معطوف على ما ( خلق الله ) على أسلوب:

                                                                                                                                                                                                                                      علفتها تبنا وماء باردا

                                                                                                                                                                                                                                      أي أو لم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا إلى ما قال الله ولا يخفى تكلفه، وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهي عنه هو الإشراك به لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ الهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان، ولم يذكر المقول لهم للعموم أي [ ص: 162 ] قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام: لا تتخذوا إلهين اثنين المشهور أن (اثنين) وصف لإلهين وكذا «واحد» في قوله سبحانه:

                                                                                                                                                                                                                                      إنما هو إله واحد صفة لـ إله، وجيء بهما للإيضاح والتفسير لا للتأكيد وإن حصل. وتقرير ذلك أن لفظ «إلهين» حامل لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعني الاثنينية وكذا لفظ «إله» حامل لمعنى الجنسية والوحدة، والغرض المسوق له الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله لا عن اتخاذ جنس الإله، وفي الثاني إثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه فوصف «إلهين» باثنين «وإله» بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا له، فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب

                                                                                                                                                                                                                                      أولها الكلام وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف، وما يفهم منه أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوي لا أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيدا صناعيا كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو بألفاظ محفوظة، فما قيل: إن مذهبه أن ذلك من التأكيد الصناعي ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه. وقد أورد السكاكي الآية في باب عطف البيان مصرحا بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي، وهو الذي اختاره العلامة القطب في شرح المفتاح نافيا كونه وصفا، واستدل على ذلك بأن معنى قولهم: الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب، ولم يذكر (اثنين وواحد) للدلالة على الاثنينية والوحدة اللتين في متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من متبوعهما إلى أحد جزئيه أعني الاثنينية والوحدة دون الجزء الآخر أعني الجنسية، فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون عطف بيان لا صفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال العلامة الثاني: ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفا صناعيا، ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له. وتعقب العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئا آخر كالتخصيص والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر اثنين (اثنين وواحد) للدلالة على الاثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان المقصود وتفسيره، كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق، ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضح ولم يخرج بهذا عن الوصفية. وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول: مراد العلامة من قوله: ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود من ذكر الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر (اثنين وواحد) ليس للدلالة على حصول الاثنينية والوحدة في موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزئيهما فلا يكونان صفة، وذكر الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره [ ص: 163 ] فإنه غامض، ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال: وأما أنه ليس ببدل فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه.

                                                                                                                                                                                                                                      ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا نسلم أن البدل يجب صحة قيامه مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري «الجن» في قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن [الأنعام: 100] بدلا من (شركاء) ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا لله الجن. ثم قال: بل لا يبعد أن يقال: الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله على ما مر تقريره. وتعقب بأن الرضي قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المتبوع كما فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلا لفظا أي صالحا لأن يقوم مقام المتبوع اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى الكلام بدونه حتى يرد ما أورد وقيل: إن ذكر «اثنين» للدلالة على منافاة الاثنينية للألوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنها من لوازم الألوهية.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي والإثبات وهو الظاهر وإن قيل فيه ما قيل. وزعم بعضهم أن (تتخذوا) متعد إلى مفعولين وأن (اثنين) مفعوله الأول (وإلهين) مفعوله الثاني والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين، وقيل: الأول مفعول أول والثاني ثان، وقيل (إلهين) مفعوله الأول. (واثنين) باق على الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين، ولا يخفى ما في ذلك، وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل لغوا، ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة على طريق الاستخدام كما قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة الإخلاص. وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على ذلك الوجه، وأما قوله تعالى: فإياي فارهبون ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضا، والنكتة فيه بعد النكتة العامة أعني الإيقاظ وتطرية الإصغاء المبالغة في التخويف والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام.

                                                                                                                                                                                                                                      والفاء في (فإياي) واقعة في جواب شرط مقدر و «إياي» مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخرا يدل عليه (فارهبون) أي إن رهبتم شيئا فإياي ارهبوا، وقول ابن عطية: إن «إياي» منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية، وهي أنه إذا كان المعمول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو إياك نعبد [الفاتحة: 5] ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      إليك حتى بلغت إياكا وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة، وقيل: لأن المفسر حقه أن يذكر بعد المفسر، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فأنا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية