الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 7 ] القول في تأويل قوله ( تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ( 101 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هذه القرى التي ذكرت لك ، يا محمد ، أمرها وأمر أهلها يعني : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب " نقص عليك من أنبائها " فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها ، وما كان من أمرهم وأمر رسل الله التي أرسلت إليهم ، لتعلم أنا ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا ، ويعلم مكذبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذب رسل الله ، فيرتدعوا عن تكذيبك ، وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات " ، يقول : ولقد جاءت أهل القرى التي قصصت عليك نبأها ، " رسلهم بالبينات " ، يعني بالحجج البينات " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " .

[ ثم ] اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : معناه : فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذبوا من قبل ذلك ، وذلك يوم أخذ ميثاقهم [ ص: 8 ] حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام .

ذكر من قال ذلك .

14901 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " قال : ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها .

وقال آخرون : معنى ذلك : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل ، بما سبق في علم الله أنهم يكذبون به يوم أخرجهم من صلب آدم عليه السلام .

ذكر من قال ذلك :

14902 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل : قال : كان في علمه يوم أقروا له بالميثاق .

14903 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال ، يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء ، ويدعوا علم ما أخفى الله عليهم ، فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون ، وفي ذلك قال : " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " ، قال : نفذ علمه فيهم ، أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في زمان آدم . وتصديق ذلك حيث قال لنوح : اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ، [ هود : 48 ] ، وقال في ذلك : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) ، [ الأنعام : 28 ] ، وفي ذلك قال : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] ، [ ص: 9 ] وفي ذلك قال : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ النساء : 165 ] ، ولا حجة لأحد على الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : "فما كانوا " لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله ، " ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " هلاكهم ، كما قال جل ثناؤه : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) .

ذكر من قال ذلك :

14904 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " بما كذبوا من قبل " ، قال : كقوله : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) .

قال أبو جعفر : وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن أبي بن كعب والربيع . وذلك أن من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به ، فلن يؤمن أبدا ، وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة ، أنه لا يؤمن أبدا ، فأخبر جل ثناؤه عنهم ، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه ، قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم . ولو قيل تأويله : فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرض ، يا محمد ، من مشركي قومك من بعد أهلها ، الذين كانوا بها من عاد وثمود ، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده كان وجها ومذهبا ، غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن .

وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه : لو ردوا ما كانوا ليؤمنوا فتأويل [ ص: 10 ] لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا من خبر عن الرسول صحيح . وإذا كان ذلك كذلك ، فأولى منه بالصواب ما كان عليه من ظاهر التنزيل دليل .

وأما قوله : " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " ، فإنه يقول تعالى ذكره : كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم ، يا محمد ، في هذه السورة ، حتى جاءهم بأس الله فهلكوا به " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " ، الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا من قومك .

التالي السابق


الخدمات العلمية