الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وهؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر : لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين وذلك أن القسمة رباعية فإن كل واحد من الاتحاد والحلول : إما معين في شخص وإما مطلق .

                أما الاتحاد والحلول المعين : كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة وفي المشايخ من جهال الفقراء والصوفية فإنهم يقولون به في معين ; إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط ; وإما بالحلول وهو قول النسطورية وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية .

                [ ص: 466 ] ( وأما الحلول المطلق وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانوا يكفرونهم بذلك .

                وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام . فما علمت أحدا سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع مثل فرعون والقرامطة - وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض هي نفس وجود المخلوقات فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره ولا أنه رب العالمين ولا أنه غني وما سواه فقير .

                لكن تفرقوا على ثلاثة طرق وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم ; لأنه أمر مبهم .

                ( الأول ) أن يقولوا : إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية حتى ذوات الحيوان والنبات والمعادن والحركات والسكنات وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات فوجودها وجود الحق وذواتها ليست ذوات الحق ويفرقون بين الوجود والثبوت فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك .

                ويقولون : إن الله سبحانه لم يعط أحدا شيئا ولا أغنى أحدا ولا أسعده ولا أشقاه وإنما وجوده فاض على الذوات فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك .

                [ ص: 467 ] ويقولون : إن هذا هو سر القدر وأن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجا عن نفسه المقدسة .

                ويقولون : إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم وأنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله سبحانه فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد وأنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه ; لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به الرسل .

                ويقولون : إنهم لم يعبدوا غير الله ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى وإن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه وأن قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } معنى حكم ; لا معنى أمر فما عبد غير الله في كل معبود فإن الله تعالى ما قضى بشيء إلا وقع .

                ويقولون : إن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية وأن قوم نوح قالوا : { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا } لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منهم ; لأن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه وينكره من أنكره وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية وأن العارف منهم يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد .

                فإن الجاهل يقول : هذا حجر وشجر والعارف يقول : هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر فإن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا وإن [ ص: 468 ] عباد الأصنام ما أخطئوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر والعارف يعبد كل شيء .

                والله يعبد أيضا كل شيء لأن الأشياء غذاؤه بالأسماء والأحكام وهو غذاؤها بالوجود وهو فقير إليها وهي فقيرة إليه وهو خليل كل شيء بهذا المعنى ويجعلون أسماء الله الحسنى هي مجرد نسبة وإضافة بين الوجود والثبوت وليست أمورا عدمية .

                ويقولون : " من أسمائه الحسنى : العلي عن ماذا وما ثم إلا هو ؟ وعلى ماذا وما ثم غيره ؟ فالمسمى محدثات وهي العلية لذاتها وليست إلا هو وما نكح سوى نفسه وما ذبح سوى نفسه والمتكلم هو عين المستمع " .

                وأن موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل لضيقه وعدم اتساعه وأن موسى كان أوسع في العلم ; فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله وأن أعلى ما عبد الهوى وأن كل من اتخذ آلهه هواه فما عبد إلا الله وفرعون كان عندهم من أعظم العارفين وقد صدقه السحرة في قوله : { أنا ربكم الأعلى } وفي قوله : { ما علمت لكم من إله غيري } .

                وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين وأقول إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون المنكر لوجود الخالق الصانع ; حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون نحن على قولفرعون .

                [ ص: 469 ] وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية