الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما اطلع الرب للجبل ، جعل الله الجبل دكا ، أي : مستويا بالأرض ( وخر موسى صعقا ) ، أي : مغشيا عليه .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

15078 - حدثني الحسين بن محمد بن عمرو العنقزي قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) ، قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ( جعله دكا ، قال : ترابا ( وخر موسى صعقا ) ، قال : مغشيا عليه .

15079 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط قال : زعم السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : تجلى منه مثل الخنصر ، فجعل الجبل دكا ، وخر موسى صعقا ، فلم يزل صعقا ما شاء الله .

15080 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( وخر موسى صعقا ) ، قال : مغشيا عليه .

15081 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) ، قال : انقعر بعضه على بعض ( وخر موسى صعقا ) ، أي : ميتا .

15082 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وخر موسى صعقا ) ، أي : ميتا . [ ص: 98 ]

15083 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : ( دكا ) ، قال : دك بعضه بعضا .

15084 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك قال : سمعت سفيان يقول في قوله : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) ، قال : ساخ الجبل في الأرض ، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه .

15085 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، عن الحجاج ، عن أبي بكر الهذلي : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) ، انقعر فدخل تحت الأرض ، فلا يظهر إلى يوم القيامة .

15086 - حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي قال ، حدثنا قرة بن عيسى قال ، حدثنا الأعمش ، عن رجل ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما تجلى ربه للجبل أشار بإصبعه فجعله دكا " وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة .

15087 - حدثني المثنى قال ، حدثني الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) ، قال هكذا بإصبعه ، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل" . [ ص: 99 ]

15088 - حدثني المثنى قال ، حدثنا هدبة بن خالد قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) ، قال : وضع الإبهام قريبا من طرف خنصره ، قال : فساخ الجبل فقال حميد لثابت : تقول هذا؟ قال : فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقوله أنس ، وأنا أكتمه !

15089 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ) ، وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور ، صار مثل دك من الدكات . [ ص: 100 ]

15090 - حدثنا الحرث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ) ، فإنه أكبر منك وأشد خلقا ( فلما تجلى ربه للجبل ) ، فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل يندك على أوله . فلما رأى موسى ما يصنع الجبل ، خر صعقا .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( دكا ) . فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : ( دكا ) ، مقصورا بالتنوين بمعنى : "دك الله الجبل دكا" أي : فتته ، واعتبارا بقول الله : ( كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ) ، [ سورة الفجر : 21 ] وقوله : ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ) ، [ سورة الحاقة : 14 ] واستشهد بعضهم على ذلك بقول حميد :

يدك أركان الجبال هزمه تخطر بالبيض الرقاق بهمه



وقرأته عامة قرأة الكوفيين : "جعله دكاء" ، بالمد وترك الجر والتنوين ، مثل [ ص: 101 ]

"حمراء" و"سوداء" . وكان ممن يقرؤه كذلك ، عكرمة ، ويقول فيه ما : -

15091 - حدثني به أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا عباد بن عباد ، عن يزيد بن حازم ، عن عكرمة قال : "دكاء من الدكاوات" . وقال : لما نظر الله تبارك وتعالى إلى الجبل صار صحراء ترابا .

واختلف أهل العربية في معناه إذا قرئ كذلك .

فقال بعض نحويي البصرة : العرب تقول : "ناقة دكاء" ، ليس لها سنام . وقال : "الجبل" مذكر ، فلا يشبه أن يكون منه ، إلا أن يكون جعله : "مثل دكاء" ، حذف "مثل" ، وأجراه مجرى : ( واسأل القرية ) [ سورة يوسف : 82 ] .

وكان بعض نحويي الكوفة يقول : معنى ذلك : جعل الجبل أرضا دكاء ، ثم حذفت "الأرض" ، وأقيمت "الدكاء" مقامها ، إذ أدت عنها .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي ، قراءة من قرأ : ( جعله دكاء ) ، بالمد وترك الجر ، لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحته . وذلك أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "فساخ الجبل" ، ولم يقل : "فتفتت" ولا "تحول ترابا" . ولا شك أنه إذا ساخ فذهب ، ظهر وجه الأرض ، فصار بمنزلة الناقة التي قد ذهب سنامها ، وصارت [ ص: 102 ] دكاء بلا سنام . وأما إذا دك بعضه ، فإنما يكسر بعضه بعضا ويتفتت ولا يسوخ . وأما "الدكاء" فإنها خلف من "الأرض" ، فلذلك أنثت ، على ما قد بينت .

فمعنى الكلام إذا : فلما تجلى ربه للجبل ساخ ، فجعل مكانه أرضا دكاء . وقد بينا معنى "الصعق" بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية