الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن أحسنتم أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية للغير أي: عملتموها على الوجه المستحسن اللائق [ ص: 19 ] أو فعلتم الإحسان أحسنتم لأنفسكم أي: لنفعها بما يترتب على ذلك من الثواب وإن أسأتم أعمالكم لازمة كانت أو متعدية بأن عملتموها على غير الوجه اللائق أو فعلتم الإساءة فلها أي: فالإساءة عليها لما يترتب على ذلك من العقاب، فاللام بمعنى (على) كما في قوله: فخر صريعا لليدين وللفم، وعبر بها لمشاكلة ما قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطبري: هي بمعنى (إلى) على معنى: فإساءتها راجعة إليها، وقيل: إنها للاستحقاق كما في قوله تعالى ( لهم عذاب أليم ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكشاف أنها للاختصاص. وتعقب بأنه مخالف لما في الآثار من تعدي ضرر الإساءة إلى غير المذنب، اللهم إلا أن يقال: إن ضرر هؤلاء القوم من بني إسرائيل لم يتعدهم، وفيه أنه تكلف لا يحتاج إليه؛ لأن الثواب والعقاب الأخرويين لا يتعديان وهما المراد هنا، وقيل: اللام للنفع كالأولى لكن على سبيل التهكم، وتعميم الإحسان ومقابله بحيث يشملان المتعدي واللازم هو الذي استظهره بعض المحققين وفسر الإحسان بفعل ما يستحسن له ولغيره والإساءة بضد ذلك، وقال: إنه أنسب وأتم؛ ولذا قيل: إن تكرير الإحسان في النظم الكريم دون الإساءة إشارة إلى أن جانب الإحسان أغلب، وأنه إذا فعل ينبغي تكراره بخلاف ضده.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلا الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال القطب أنه لما عصوا سلط الله تعالى عليهم من قصدهم بالنهب والأسر، ثم لما تابوا وأطاعوا حسنت حالهم فظهر أن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم، والآية تضمنت ذلك، وفيها من الترغيب بالإحسان والترهيب من الإساءة ما لا يخفى فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا جاء وعد المرة الآخرة من (مرتي) إفسادكم ليسوءوا متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه، وهو جواب إذا؛ أي: بعثناهم ليسوءوا وجوهكم أي: ليجعل العباد المبعوثون آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم، فإن الأعراض النفسانية تظهر فيها فيظهر بالفرح النضارة والإشراق، وبالحزن والخوف الكلوح والسواد، فالوجوه على حقيقتها، قيل: ويحتمل أن يعبر بالوجه عن الجملة فإنهم ساءوهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها، ويؤيده قوله تعالى: وإن أسأتم فلها ويحتمل أن يراد بالوجوه ساداتهم وكبراؤهم أهو هو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      واختير هذا على ليسوؤكم مع أنه أحضر وأظهر إشارة إلى أنه جمع عليه ألم النفس والبدن المدلول عليه بقوله تعالى: وليتبروا إلخ، وقيل: فإذا جاء هنا مع كونه من تفصيل المجمل في قوله سبحانه: لتفسدن في الأرض مرتين فالظاهر: فإذا جاء، وإذا جاء للدلالة على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم دلالة على شدة شكيمتهم في كفران النعم، وإنهم كلما ازدادوا عدة وعدة زادوا عدوانا وعزة إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة، فاجأهم الله عز وجل على الغرة نعوذ بالله سبحانه من مباغتة عذابه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة: (ليسؤ) على التوحيد والضمير لله تعالى، أو للوعد أو للبعث المدلول عليه بالجزاء المحذوف، والإسناد مجازي على الأخيرين وحقيقي على الأول، ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجهه. وزيد بن علي والكسائي (لنسوء) بنون العظمة؛ فإن الضمير لله تعالى لا يحتمل غير ذلك، وقرأ أبي: (لنسؤن) بلام الأمر ونون العظمة أوله، ونون التوكيد الخفيفة آخره، ودخلت لام الأمر على فعل المتكلم كما في قوله تعالى: ولنحمل خطاياكم وجواب إذا على هذه القراءة هو الجملة الإنشائية على تقدير الفاء؛ لأنها لا تقع جوابا بدونها.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا: (لنسوءن) و (ليسوءن) بالنون والياء أولا ونون التوكيد الشديدة آخرا.

                                                                                                                                                                                                                                      واللام في ذلك [ ص: 20 ] لام القسم، والجملة جواب القسم سادة مسد جواب إذا، واللام في قوله تعالى: وليدخلوا المسجد لام كي، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله، وهو متعلق ببعثنا المحذوف أيضا، وجوز أن يتعلق بمحذوف غيره، فيكون العطف من عطف جملة على أخرى، وعلى القراءة بلام الأمر أو لام القسم فيما تقدم يجوز أن تكون اللام لام الأمر، وأن تكون لام كي، والمراد بالمسجد بيت المقدس وهو مفعول يدخلوا، وفي الصحاح أن الصحيح في نحو دخلت البيت إنك تريد دخلت إلى البيت، فحذف حرف الجر فانتصب البيت انتصاب المفعول به، وتحقيقه في محله كما دخلوه أي: دخولا كائنا كدخولهم إياه أول مرة فهو في موضع النعت لمصدر محذوف، وجوز أن يكون حالا أي: كائنين كما دخلوه، و ( أول ) منصوب على الظرفية الزمانية، والمراد من التشبيه على ما في البحر أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال، وفيه أيضا أن هذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب وليتبروا أي: يهلكوا، وقال قطرب: يهدموا، وأنشد قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      وما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع



                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: الهدم إهلاك أيضا، وأخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أن التتبير كلمة نبطية.

                                                                                                                                                                                                                                      ما علوا أي الذي غلبوه واستولوا عليه، فما اسم موصول، والعائد محذوف وهو إما مفعول أو مجرور على ما قيل، وجوز أن تكون ما مصدرية ظرفية، أي: ليتبروا مدة دوامهم غالبين قاهرين تتبيرا فظيعا لا يوصف.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في الإفساد الأخير، فقال غير واحد: إنهم بختنصر وجنوده، وتعقبه السهيلي بأنه لا يصح؛ لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل، وقيل: الإسكندر وجنوده، وتعقبه أيضا بأن بين الإسكندر وعيسى عليه السلام نحوا من ثلاثمائة سنة ثم قال: لكنه إذا قيل: إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه؛ لأنه كان حينئذ حيا، وروي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أن الذي غزاهم ملك خردوش وتولى قتلهم على دم يحيى عليه السلام قائد له فسكن. وفي بعض الآثار أن صاحب الجيش دخل مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا: دم قربان لم يقبل منا. فقال: ما صدقتموني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم. ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا: إنه دم يحيى عليه السلام فقال: بمثل هذا ينتقم ربكم منكم. ثم قال: يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ، واختار في الكشف - وقال: هو الحق - إن المبعوث عليهم في المرة الثانية بيردوس من ملوك الطوائف، وكأنه هو خردوش الذي مر آنفا، فقد ذكر أنه ملك بابل من ملوك الطوائف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: اسمه جوزور وهؤلاء الملوك ظهروا بعد قتل الإسكندر دارا واستيلائه على ملك الفرس، وكان ذلك بصنع الإسكندر متبعا فيه رأي معلمه أرسطو، وعدتهم تزيد على سبعين ملكا، ومدة ملكهم على ما في بعض التواريخ خمسمائة واثنتا عشرة سنة، وحصل اجتماع الفرس بعد هذه المدة على أردشير بن بابك طوعا وكرها، وكان أحد ملوك الطوائف على إصطخر، وعلى هذا يكون الملك المبعوث لفساد بني إسرائيل بقتل يحيى عليه [ ص: 21 ] السلام من أواخر ملوك الطوائف كما لا يخفى، ويكون بين هذا البعث والبعث الأول على القول بأن المبعوث بختنصر وأتباعه مدة متطاولة، ففي بعض التواريخ أن قتل الإسكندر دارا بعد بختنصر بأربعمائة وخمس وثلاثين سنة وبعد مضي نحو ثلاثمائة سنة من غلبة الإسكندر ولد المسيح عليه السلام، ولا شك أن قتل يحيى عليه الصلاة والسلام بعد الولادة بزمان، والبعث بعد القتل كذلك، فيكون بين البعثين ما يزيد على سبعمائة وخمس وثلاثين سنة، والذي ذهب إليه اليهود أن المبعوث أولا بختنصر، وكان في زمن أرميا عليه السلام، وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام كما نطق به كتابه فحبسوه في بئر وجرحوه، وكان تخريبه لبيت المقدس في السنة التاسعة عشر من حكمه وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثمان وثلاثين سنة، وبقي خرابا سبعين سنة، ثم إن أسبيانوس قيصر الروم وجه وزيره طوطوز إلى خرابه فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ونعم ما قيل: إن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه مما لا يتعلق به كبير غرض؛ إذ المقصود أنه لما كثرت معاصيهم سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر الآية يقتضي اتحاد المبعوثين أولا وثانيا، ومن لا يقول بذلك يجعل رجوع الضمائر للعباد على حد رجوع الضمير للدرهم في قولك: عندي درهم ونصفه. فافهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية