الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وجعلنا الليل إلخ بجامع دليل العقل والسمع أو نعمتي الدين والدنيا، وأما اتصال قوله تعالى: ويدع الإنسان إلخ فهو أنه سبحانه لما وصف القرآن حتى بلغ به الدرجة القصوى في الهداية أتى بذكر من أفرط في كفران هذه النعمة العظمى قائلا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      ومثل هذا ما قيل إنه تعالى بعد أن وصف القرآن بما وصف ذم قريشا بعدم سؤالهم الهداية به وطلبهم إنزال الحجارة عليهم أو إيتاء العذاب الأليم إن كان حقا، وفي الكشف أن قوله تعالى: ويدع الإنسان إلخ بيان أن القرآن يهديهم للتي هي أقوم ويأبون إلا التي هي ألوم وهو وجه للربط مطلقا، وكل ما ذكروه في ذلك متقارب. ويرد على حمل الدعاء على الدعاء بالأعمال والعجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال خلاف المتبادر كما لا يخفى، وفسر بعضهم الإنسان الثاني بآدم عليه السلام لما أخرج ابن جرير، وابن المنذر وغيرهما عن سلمان الفارسي قال: أول ما خلق الله تعالى من آدم عليه السلام رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال: يا رب، أعجل قبل الليل، فذلك قوله تعالى: وكان الإنسان عجولا ، وروي نحوه عن مجاهد، وروى القرطبي -والعهدة عليه- أنه لما وصلت الروح لعينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت جوفه اشتهاها فوثب عجلا إليها فسقط، ووجه ارتباط: وكان الإنسان إلخ على هذا القول إفادته أن عجلته بالدعاء لغيره أو لعدم تأمله من شأنه، وأنه موروث له من أصله وشنشنة يعرفها من أخزم، فهو اعتراض تذييل، وكلام تعليلي، والأولى إرادة الجنس وإن كان ألفاظ الآية لا تنبو عن إرادة آدم عليه السلام كما زعم أبو حيان، ثم إن الباء في الموضعين على ظاهرها صلة الدعاء، وقيل: إنها بمعنى (في) والمعنى: يدعو في حالة الشر والضر كما كان يدعو في حالة الخير فالمدعو به ليس الشر والخير، وقيل: إنها للسببية؛ أي: يدعو بسبب ذلك، وكلا القولين مخالفين للظاهر لا يعول عليهما، واستدل بالآية على بعض الاحتمالات على المنع من دعاء الرجل على نفسه أو على ماله أو على أهله، وقد جاء النهي عن ذلك صريحا في بعض الأخبار.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج أبو داود والبزار عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم على أموالكم لئلا توافقوا من الله تعالى ساعة فيها إجابة [ ص: 25 ] فيستجيب لكم وبه يرد على ما قيل من أن الدعاء بذلك لا يستجاب فضلا من الله تعالى وكرما.

                                                                                                                                                                                                                                      واستشكل بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على أهله كما سمعت في حديث الواقدي، وأجيب عن ذلك بأنه كان للزجر وإن كان وقت الغضب، وقد اشترط صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه في مثل ذلك أن يكون رحمة.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة».

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر النووي في جواب ما يقال: إن ظاهر الحديث أن الدعاء ونحوه كان بسبب الغضب ما قال المازري من أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعاءه وسبه ونحوهما كان مما يخير فيه بين أمرين أحدهما هذا الذي فعله والثاني زجره بأمر آخر، فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المخير فيهما، وليس ذلك خارجا عن حكم الشرع، والمراد من قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس لها بأهل» ليس لها بأهل عند الله تعالى، وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب لذلك، وقد يستدل على ذلك بأمارات شرعية وهو مأمور صلى الله عليه وسلم بالحكم بالظاهر، والله تعالى يتولى السرائر، وقيل: إن ما وقع منه عليه الصلاة والسلام من الدعاء ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية ك (تربت يمينك) وعقرى حلقى، لكن خاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك زكاة وقربة، نعم في ذكر حديث الواقدي ونحوه كالحديث الذي ذكره البيضاوي في المقام الذي ذكر فيه لا يخلو عن شيء فتأمل، ثم إن القياس إثبات الواو في: ( يدع الإنسان ) إذ لا جازم تحذف له لكن نقل القرآن العظيم كما سمع ولم يتصرف فيه الناقل بمقدار فهمه وقوة عقله.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلنا الليل والنهار آيتين هذا على ما قيل شروع في بيان بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه، فإن الجعل المذكور وما عطف عليه وإن كانا من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الإمام في وجه الربط وجوها، الأول: أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال سبحانه: وجعلنا إلخ، وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه كذلك الزمان مشتمل على الليل والنهار، وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل، الثاني: أنه تعالى وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة، بين أن كل أحوال العالم كذلك؛ وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد، الثالث نحو ما نقلناه أولا ولعله الأولى، وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودي؛ إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور العربية، ولترتيب غاية النهار عليها بلا واسطة، ومما يزيد تقديم الليل حسنا افتتاح السورة بقوله سبحانه: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا والجعل على ما نقل عن السمين بمعنى التصيير متعد لاثنين أو بمعنى الخلق متعد لواحد و آيتين حال مقدرة.

                                                                                                                                                                                                                                      واستشكل الأول الكرماني بأنه يستدعي أن يكون الليل والنهار موجودين على حالة ثم انتقلا منها إلى [ ص: 26 ] أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وليس كذلك، ودفع بأنه من باب: - ضيق فم الركية - وهو مجاز معروف واستظهر هذا أبو حيان، والمعنى: جعلنا الملوين بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر على وتيرة عجيبة آيتين تدلان على أن لهما صانعا حكيما قادرا عليما ويهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من الإسلام والتوحيد.

                                                                                                                                                                                                                                      فمحونا آية الليل الإضافة هنا وفيما بعد إما بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود نحو: أربع نسوة، أي: محونا الآية التي هي: (الليل) أي: جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء كما لا يستبين ما في اللوح الممحو، وإلى ذلك ذهب صاحب الكشاف.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن مجاهد وهو على نحو: - ضيق فم الركية - والفاء تفسيرية؛ لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته، وقيل: معنى محو الليل إزالة ظلمته بالضوء، ورجح بأن فيه إبقاء المحو على حقيقته وهو إزالة الشيء الثابت وليس فيما ذكره الزمخشري ذلك، ولا ينبغي العدول عن الحقيقة بلا ضرورة. وتعقب بأنه يكفي ما بعده قرينة على تلك الإرادة، فإن محو الليل في مقابله جعل النهار مبصرا، وعلى ما ذكر من المعنى الحقيقي لا يتعلق بمحو الليل فائدة زائدة على ما بعده، وقيل عليه إن الظلمة هي الأصل والنور طارئ، فكون الليل مخلوقا مطموس الضوء مفروغ عنه، فالمراد بيان أن الله تعالى خلق الزمان ليلا مظلما، ثم جعل بعضه نهارا بإحداث الإشراق لفائدة ذكرها سبحانه، وكون محو الليل في مقابلة جعل النهار مضيئا لا يوجب حمله على المجاز لفائدة بيان إبقاء بعض الزمان على إظلامه وجعل بعضه مضيئا اه. ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن المقام لا يلائمه فالمعول عليه ما في الكشاف.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلنا آية النهار أي الآية التي هي النهار مبصرة أي: مضيئة فهو مجاز بعلاقة السببية أو الإسناد مجازي كما في - نهاره صائم - والمراد: يبصر أهلها أو الصيغة للنسب أي: ذات إبصارهم أو هي من أبصره المتعدي، أي: جعله مبصرا ناظرا والإسناد إلى النهار مجازي أيضا من الإسناد إلى السبب العادي، والفاعل الحقيقي هو الله تعالى أو من باب أفعل المراد به غير من أسند إليه كأضعف الرجل إذا كانت دوابه ضعافا وأجبن إذا كان أهله جبناء، فأبصرت الآية بمعنى صار أهلها بصراء.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي ذلك عن أبي عبيدة وهو معنى وضعي لا مجازي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما (مبصرة) بفتح الميم والصاد.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو مصدر أقيم مقام غيره، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كأرض مسبعة ومكان مضبة وإما إضافة لامية، وآيتا الليل والنهار نيراهما القمر والشمس، ويحتاج حينئذ في قوله تعالى: وجعلنا الليل والنهار آيتين إلى تقدير مضاف في الأول والثاني أي: جعلنا نيري الليل والنهار آيتين أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين أن جعل (جعل) متعديا إلى مفعولين والليل والنهار هو المفعول الأول، و (آيتين) الثاني، فإن عكس كما استظهره أبو حيان وجعل الليل والنهار نصبا على الظرفية في موضع المفعول الثاني أي: جعلنا في الليل والنهار آيتين وهما النيران لا يحتاج إلى تقدير كما إذا جعل الجعل متعديا لواحد، والليل والنهار منصوبان على الظرفية كما جوزه المعربون. ومحو آية الليل وهي القمر على ما تدل عليه الآثار إزالة ما ثبت لها من النور يوم خلقت، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية أنه قال: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس وهو آية الليل فمحي، فالسواد الذي في القمر أثر ذلك المحو.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 27 ] وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عكرمة أنه قال: خلق الله تعالى نور الشمس سبعين جزءا، ونور القمر سبعين جزءا، فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءا، فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا، والقمر على جزء واحد، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كانت شمس بالليل وشمس بالنهار، فمحى الله تعالى شمس الليل فهو المحو الذي في القمر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في دلائل النبوة، وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر فقال: كانا شمسين. وقال: قال الله تعالى: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل فالسواد الذي رأيت هو المحو.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث طويل أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند واه عن ابن عباس مرفوعا أن الله تعالى خلق شمسين من نور عرشه فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء، وبقي فيه النور؛ وذلك قوله تعالى: وجعلنا الليل والنهار آيتين الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      إلى غير ذلك من الآثار، والفاء على هذا للتعقيب. وجعل آية النهار وهي الشمس مبصرة على نحو ما تقدم فتبصر، وقيل: محو القمر إما خلقه كمدا مطموس النور غير مشرق بالذات على ما ذكره أهل الهيئة من أنه غير مضيء في نفسه بل نوره مستفاد من ضوء الشمس فالفاء تفسيرية كما مر، وإما نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا بحسب الرؤية والإحساس إلى أن ينمحق على ما هو معنى المحو فالفاء للتعقيب، وذكر الإمام في محوه قولين، أحدهما نقص نوره قليلا قليلا إلى المحاق، وثانيهما: جعله ذا كلف، ثم قال: حمله على الوجه الأول أولى؛ لأن اللام في الفعلين بعد متعلق بما هو المذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله تعالى إذا حملنا محو القمر على زيادة نور القمر ونقصانه؛ لأن سبب حصول هذه الآية مختلف باختلاف أحوال نور القمر، وأهل التجارب أثبتوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الهلال كما قال سبحانه: ولتعلموا إلخ اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أنه متى دل أثر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه أولا لا ينبغي أن يدعى أن غيره أولى، وهو لعمري وجه لا كلف فيه عند من له عين مبصرة، وللفلاسفة في هذا المحو المرئي في وجه القمر كلام طويل لا بأس بأن تحيط به خبرا. فنقول: ذكر الإمام في المباحث الشرقية أن امتناع بعض المواضع في وجه القمر عن قبول الضوء التام إما أن يكون بسبب خارج عن جرم القمر أو غير خارج عنه، فإن كان بسبب خارج فإما أن يكون لمثل ما يعرض للمرايا من وقوع أشباح الأشياء فيها، فإذا رؤيت تلك الأشياء لم تر براقة فكذلك القمر لما تصورت فيه أشباح الجبال والبحار وجب أن لا ترى تلك المواضع في غاية الاستنارة، وإما أن يكون ذلك بسبب ساتر والأول باطل، أما أولا فلأن الأشباح لا تنحفظ هيئتها مع حركة المرآة وبتقدير سكونها لا تستقر تلك الأشباح فيها عند اختلاف مقامات الناظرين والآثار التي في وجه القمر ليست كذلك، وأما ثانيا: فلأن القمر ينعكس الضوء عنه إلى البصر وما كان كذلك لم يصلح للتخييل، وأما ثالثا: فلأنه كان يجب أن تكون تلك الآثار كالكرات لأن الجبال في الأرض كتضريس أو خشونة في سطح كرة وليس لها من المقدار قدر ما يؤثر في كرية الأرض فكيف شباحها المرئية في المرآة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 28 ] وأما إن كان ذلك بسبب ساتر فذلك الساتر إما أن يكون عنصريا أو سماويا والأول باطل، أما أولا فلأنه كان يجب أن يكون المواضع المتسترة من جرم القمر مختلفة باختلاف مقامات الناظرين، وأما ثانيا فلأن ذلك الساتر لا يكون هواء صرفا ولا نارا صرفة؛ لأنهما شفافان فلا يحجبان بل لا بد وأن يكون مركبا إما بخارا وإما دخانا، وذلك لا يكون مستمرا، وأما إن كان الساتر سماويا فهو الحق؛ وذلك إنما يكون لقيام أجسام سماوية قريبة المكان جدا من القمر وتكون من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها بل جملتها على نحو مخصوص من الشكل وتكون إما عديمة الضوء أولها ضوء أضعف من ضوء القمر فترى في حالة إضاءته مظلمة، وأما إن كان ذلك بسبب عائد إلى ذات القمر فلا يخلو إما أن يكون جوهر ذلك الموضع مساويا لجواهر المواضع المستنيرة من القمر في الماهية، أو لا يكون فإن لم يكن كان ذلك لارتكاز أجرام سماوية مخالفة بالنوع للقمر في جرمه كما ذكرناه قبل، وهو قريب منه.

                                                                                                                                                                                                                                      وإما أن تكون تلك المواضع مساوية الماهية لجرم القمر فحينئذ يمتنع اختصاصها بتلك الآثار إلا بسبب خارجي لكنه قد ظهر لنا أن الأجرام السماوية لا تتأثر بشيء عنصري وبذلك أبطل قول من قال: إن ذلك المحو بسبب انسحاق عرض القمر من مماسة النار، أما أولا فلأن ذلك يوجب أن يتأدى ذلك في الأزمان الطويلة إلى العدم والفساد بالكلية، والأرصاد المتوالية مكذبة لذلك، وأيضا القمر غير مماس للنار لأنه مفرق في فلك تدويره الذي هو في حامله الذي بينه وبين النار بعد بعيد بدليل أن النار لو كانت ملاقية لحامله لتحركت بحركته إلى المشرق وليس كذلك؛ لأن حركات الشهب في الأكثر لا تكون إلا إلى جهة المغرب، وتلك الحركة تابعة لحركة النار، والحركة المستديرة ليست للنار بذاتها؛ فإنها مستقيمة الحركة فذلك لها بالعرض تبعا لحركة الكل فبطل ما قالوه اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الآمدي في أبكار الأفكار زيادة على ما يفهم مما ذكر من الأقوال وهي أن منهم من قال: إن ما يرى خيال لا حقيقة له، ورده بأنه لو كان كذلك لاختلف الناظرون فيه، ومنهم من قال: إنه السواد الكائن في القمر في الجانب الذي لا يلي الشمس، ورده بأنه لو كان كذلك لما رئي متفرقا، ومنهم من قال: إنه وجه القمر؛ فإنه مصور بصورة وجه الإنسان وله عينان وحاجبان وأنف وفم، ورده بأنه مع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلا عن الفائدة؛ لأن فائدة الحاجبين عندهم دفع أذى العرق عن العينين وفائدة الأنف الشم وفائدة الفم دخول الغذاء وليس للقمر ذلك، وقد رد عليهم رحمة الله تعالى عليه سائر ما ذكروه.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الإمام في التفسير أن آخر ما ذكره الفلاسفة في ذلك أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت في وجهه كالكلف في وجه الإنسان وفي ارتكازها في بعض أجزائه دون بعض مع كونه متشابه الأجزاء عندهم دليل على الصانع المختار كما أن في تخصيص بعض أجزائه بالنور القوي وبعضها بالنور الضعيف مع تشابه الأجزاء دليلا على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ومثل هذا التخصيص في الدلالة تخصيص بعض جوانب الفلك الذي هو عندهم أيضا جرم بسيط متشابه الأجزاء بارتكاز الكواكب فيه دون البعض الآخر.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعض أهل الآثار أنه مكتوب في وجه القمر لا إله إلا الله، وقيل: لفظ جميل، وقيل غير ذلك، [ ص: 29 ] وأن المحو المرئي هو تلك الكتابة ولا يعول على شيء من ذلك، نعم مكتوب على كل شيء لا إله إلا الله وكذا جميل ولكن ذلك بمعنى آخر كما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل لي عن أهل الهيئة الجديدة أنهم يزعمون أن القمر كالأرض فيه الجبال والوهاد والأشجار والبحار وأنهم شاهدوا ذلك في أرصادهم، وأن المواضع التي لا يرى فيها محو هي البحار والتي فيها محو هي أرض غير مستوية، وزعموا أنه لو وصل أحد إلى القمر لرأى الأرض كذلك، ومن هنا قالوا: لا يبعد أن يكون معمورا بخلائق هو عمارة الأرض بل قالوا: إن جميع الكواكب مثله في ذلك قياسا عليه، وإن كانت لا يرى فيها لمزيد بعدها ما يرى فيه وبعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض بالخلق على صغرها ويترك أجساما عظيمة أكثرها أعظم من الأرض خالية بلا خلق على كبرها، وهم منذ غرهم القمر تشبثوا بحباله في عمل الحيل للعروج إليه فصنعوا سفنا زئبقية فعرجوا فيها فقبل أن يصلوا إلى كرة البخار انتفخت أجسامهم وضلت كما ضلت من قبل أفهامهم فانقلبوا صاغرين وهبطوا خاسئين، وأنت تعلم أن كلامهم في هذا الباب مخالف لأصول الفلسفة ولا برهان لهم عليه سوى السفه ومنشؤه محض أنهم رأوا شيئا في القمر ولم يتحققوه وظنوه ما ظنوه، وأي مانع من أن يكون قد جعل الله تعالى المحو على وجه يتخيل فيه ذلك بل لا مانع على أصولنا من أن يقال: قد جعل الله تعالى في القمر أجراما تشبه ما حسبوه لكن لم يرد في ذلك شيء عن الصادق صلى الله عليه وسلم، وهو الذي عرج به إلى قاب قوسين أو أدنى، وما ذكروه من أنه بعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض إلخ. يلزم عليه أن يكون ما بين الكواكب ككواكب الدب الأكبر مثلا معمورا بالخلائق كالأرض أيضا فله أوسع منها بأضعاف مضاعفة، وهم لا يقولون به على أنا نقول: قد جاء «أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد» فيجوز أن يكون على جرم القمر ملائكة يعبدون الله تعالى بما شاء وكيف شاء، بل يجوز أن يكون عند كل ذرة من ذراته ملك كذلك، وهذا نوع من العمارة بالخلق، والأحسن عند من عز عليه وقته عدم الالتفات إلى مثل هذه الخرافات وتضييع الوقت في ردها والله سبحانه الموفق.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ما تقدم من أن المحو نقص ما استفاده القمر من الشمس شيئا فشيئا فيه القول بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس، وقد عد الجل من العلماء ذلك في الحدسيات وذكروا أن الشمس مضيئة بنفسها وكلا الأمرين مما ذكره الفلاسفة وليس له في الشرع مستند يعول عليه، وقد نقله الآمدي وتعقبه فقال: ذكروا أن الشمس نيرة بنفسها وما المانع من كونها سوداء الجرم، والله تعالى يخلق فيها النور في أوقات مشاهدتنا لها، وأن تكون مستنيرة من كواكب أخرى فوقها وهي مستورة عنا ببعض الأجرام السماوية المظلمة كما يحدث للشمس في حالة الكسوف، وإن سلمنا أنها نيرة بنفسها فلا نسلم أن نور القمر مستفاد منها، وما المانع من كون الرب تعالى يخلق فيه النور في وقت دون وقت أو أن يكون مع كونه مركوزا في فلكه دائرا على مركز نفسه، وأحد وجهيه نير والآخر مظلم، كما كان بعض أجزاء الفلك شفافا وبعضها نيرا، وهو متحرك بحركة مساوية لحركة فلكه ويكون وجهه المضيء عند مقابلة الشمس، وهو الذي يلينا ويكون الزيادة والنقصان فيما يظهر لنا على حسب بعده وقربه من الشمس فلا يكون مستنيرا من الشمس اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأورد أنه إذا ضم الخسوف إلى الزيادة والنقصان قربا وبعدا لا يتم ما ذكره وصح ما ذكروه من الاستفادة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 30 ] وأجيب بأنه ما المانع من أن يكون الخسوف لحيلولة جرم علوي بيننا وبينه لا لحيلولة الأرض بينه وبين الشمس فلا بد لنفي ذلك من دليل فافهم والله تعالى أعلم، وهو المتصرف في ملكه كيفما يشاء لتبتغوا متعلق بقوله تعالى: وجعلنا آية النهار وفي الكلام مقدر؛ أي: جعلنا آية النهار مبصرة لتطلبوا لأنفسكم فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      فضلا من ربكم أي: رزقا؛ إذ لا يتسنى ذلك في الليل، وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشيئا دلالة كما قال شيخ الإسلام: على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب، وإنما الإعطاء إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوب عليه تعالى بل تفضلا بحكم الربوبية، ومعنى تأثير الطلب على نحو تأثير الأسباب العادية فإنه من جملتها ولا توقف حقيقة للرزق عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الخبر: يطلبك رزقك كما يطلبك أجلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ، ولله تعالى در القائل:


                                                                                                                                                                                                                                      لقد علمت وما الإسراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني     أسعى إليه فيعييني تطلبه
                                                                                                                                                                                                                                      ولو قعدت أتاني لا يعنيني



                                                                                                                                                                                                                                      ولتعلموا متعلق كما قيل بكلا الفعلين أعني محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، لا بأحدهما فقط؛ إذ لا يكون ذلك بانفراده مدارا للعلم المذكور، أي: لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتا من حيث الإظلام والإضاءة مع تعاقبهما أو حركاتهما وأوضاعهما وسائر أحوالهما عدد السنين التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية والحساب أي الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، ونفس السنة من حيث تحققها مما ينتظمه الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من حيثية التحقق والتحصل من عدة أشهر حصل كل واحدة منها من عدة أيام حصل كل واحد منها من طائفة من الساعات مثلا، فإن ذلك من وظيفة علم الحساب بل من حيث إنها فرد من طائفة السنين المعدودة بعدها أي نفسها من غير أن يعتبر في ذلك تحصيل شيء معين كما حقق ذلك شيخ الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى لتعلموا باختلافهما وتعاقبهما على نسق واحد أو بحركاتهما عدد السنين إلخ. المراد بالحساب جنسه أي الجاري في المعاملات كالإجارات والبيوع المؤجلة وغير ذلك، وذكر بعضهم أن الظاهر المناسب أن المراد لتعلموا بالليل فإن عدد السنين الشرعية والحساب الشرعي يعلمان به غالبا أو بالقمر لقوله تعالى في الأهلة: قل هي مواقيت للناس والحج وأنت تعلم أن السنين شمسية وقمرية وبكل منهما العمل، فلو قيل إحدى الآيتين مبينة لأحدهما والأخرى للآخر لا محذور فيه، وكون الشرع معولا على أحدهما لا يضر، وتقديم العدد على الحساب من أن الترتيب بين متعلقيهما على ما سمعت أولا وجودا وعدما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى المراتب فكان جديرا بالتقديم في مقام الامتنان، أو لأن العدد نازل من الحساب منزلة البسيط من المركب بناء على ما حقق من أن الحساب إحصاء ما له كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل، والعدد إحصاؤه [ ص: 31 ] بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل شيء كذلك ولهذا وكون السنين مما لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف إليها العدد وعلق الحساب بما عداها فتدبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وكل شيء تفتقرون إليه في معاشكم ومعادكم سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى: فصلناه تفصيلا وهذا من باب الاشتغال، ورجح النصب لتقدم جملة فعلية، وجوز أن يكون معطوفا على: (الحساب) وجملة فصلناه صفة شيء، وهو بعيد معنى.

                                                                                                                                                                                                                                      والتفصيل من الفصل بمعنى القطع، والمراد به الإبانة التامة، وجيء بالمصدر للتأكيد. فالمعنى بينا كل شيء في القرآن الكريم بيانا بليغا لا التباس معه كقوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية