الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه فذلكة لما تقدم من كون القرآن هاديا للتي هي أقوم وللزوم الأعمال لأصحابها، أي: من اهتدى بهدايته وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة الاهتداء به إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد ومن ضل عما يهتديه إليه فإنما يضل عليها أي: فإنما وبال ضلاله [ ص: 35 ] عليها لا على من لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه ولا تزر وازرة وزر أخرى تأكيد للجملة الثانية أي: لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم، وخص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة لما قال: اكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلي أوزاركم، ولا ينافي هذه الآية ما يدل عليه قوله تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وقوله تعالى: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته؛ لأنه في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته، فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له، وإنما يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة، وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال، قاله شيخ الإسلام، ولهذه الآية طعنت عائشة رضي الله تعالى عنها في صحة خبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه».

                                                                                                                                                                                                                                      فإن فيه أخذ الإنسان بجرم غيره وهو خلاف ما نطقت به الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب بأن الحديث محمول على ما إذا أوصى الميت بذلك فيكون ذلك التعذيب من قبيل جزاء الإضلال، وقيل: المراد بالميت المحتضر مجازا وبالتعذيب التعذيب في الدنيا أي إن المحتضر يتألم ببكاء أهله عليه فلا ينبغي أن يبكوا، ولها أيضا منع جماعة من قدماء الفقهاء صرف الدية على العاقلة لما فيه من مؤاخذة الإنسان بفعل غيره، وأجيب بأن ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء وإلا فالمخطئ نفسه ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يؤاخذ غيره عليه، واستدل بها الجبائي على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإلا كانوا مؤاخذين بذنب آبائهم وهو خلاف ظاهر الآية، وزعم بعضهم أنها نزلت فيهم وليس بصحيح، نعم أخرج ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة قالت: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: «هم من آبائهم». ثم سألته بعد ذلك فقال: «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت: ولا تزر وازرة وزر أخرى فقال: «هم على الفطرة» أو قال: «في الجنة».

                                                                                                                                                                                                                                      والمسألة خلافية وفيها مذاهب؛ فقال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم، واستدل لذلك بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة أيضا قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين أين هم؟ قال: «في الجنة». وسألته عن ولدان المشركين: أين هم؟ قال: «في النار». قلت: يا رسول الله، لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام. قال: «ربك أعلم بما كانوا عاملين، والذي نفسي بيده إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار».

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه أن هذا الخبر قد ضعفه ابن عبد البر فلا يحتج به، نعم صح أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين».

                                                                                                                                                                                                                                      وليس فيه تصريح بأنهم في النار، وحقيقة لفظه الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين لو بلغوا ولم يبلغوا، والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس قال: حدثني الصعب بن جثامة قلت: يا رسول الله، إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال: «هم منهم».

                                                                                                                                                                                                                                      وهو عند المخالفين محمول على أنهم منهم في الأحكام [ ص: 36 ] الدنيوية كالاسترقاق.

                                                                                                                                                                                                                                      وتوقفت طائفة فيهم ومن هؤلاء أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقيل: فيهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار لما أخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن عبد الله بن شداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغارا فوضع رأسه ساعة ثم قال: أين السائل؟ فقال: ها أنا ذا يا رسول الله. فقال: «إن الله تبارك وتعالى إذا قضى بين أهل الجنة والنار ولم يبق غيرهم عجوا فقالوا: اللهم ربنا لم تأتنا رسلك ولم نعلم شيئا فأرسل إليهم ملكا والله تعالى أعلم بما كانوا عاملين فقال: إني رسول ربكم إليكم فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار فقال: إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا فيها، فاقتحمت طائفة منهم ثم خرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم فجعلوا في السابقين المقربين ثم جاءهم الرسول فقال: إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فاقتحمت طائفة أخرى ثم أخرجوا من حيث لا يشعرون فجعلوا في أصحاب اليمين، ثم جاء الرسول فقال: إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فقالوا: ربنا لا طاقة لنا بعذابك فأمر بهم فجمعت نواصيهم وأقدامهم ثم ألقوا في النار.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب المحققون إلى أنهم من أهل الجنة، وهو الصحيح ويستدل له بأشياء منها الآية على ما سمعت عن الجبائي، ومنها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين. قال: «وأولاد المشركين». رواه البخاري في صحيحه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما أخرجه الحكيم الترمذي أيضا في النوادر وابن عبد البر عن أنس قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: هم خدام أهل الجنة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها الآية الآتية حيث أفادت أن لا تعذيب قبل التكليف، ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يبلغ، ولم يخالف أحد في أن أولاد المسلمين في الجنة إلا بعض من لا يعتد به فإنه توقف فيهم، لحديث عائشة: توفي صبي من الأنصار فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال صلى الله عليه وسلم: «أوغير ذلك يا عائشة؟ إن الله تعالى خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم».

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله: أعطه إني لأراه مؤمنا. قال: أو مسلما. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم».

                                                                                                                                                                                                                                      إلى غير ذلك من الأحاديث، وقال القاضي: دلت الآية على أن الوزر ليس من فعله تعالى لأنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره، ولأنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلا لأن الوازر إنما يوصف بذلك إذا كان مختارا يمكنه التحرز، ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بذلك، وأنت تعلم أن هذا إنما ينتهض على الجبرية لا على الجماعة القائلين لا جبر ولا تفويض وما كنا معذبين بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها. أي: وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا على فعل شيء أو ترك شيء أصليا كان أو فرعيا حتى نبعث إليه رسولا يهدي إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع أو حتى نبعث [ ص: 37 ] رسولا كذلك تبلغه دعوته سواء كان مبعوثا إليه أم لا على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخلاف، وهذا غاية لعدم صحة وقوع العذاب في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقا كيف والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان، ألا يرى إلى قوم نوح عليه السلام كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة، وألزم المعتزلة القائلون بالوجوب العقلي قبل البعثة بهذه الآية لأنه تعالى نفى فيها التعذيب مطلقا قبل البعثة وهو من لوازم الوجوب بشرط ترك الواجب عندهم إذ لا يجوزون العفو فينتفي الوجوب قبل البعثة لانتفاء لازمه، ومحصوله أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبل البعثة ولا شبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذ فيلزم أن يكونوا معذبين قبلها وهو باطل بالآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب بأنه إنما يتم إذا أريد بالعذاب ما يشمل الدنيوي والأخروي كما أشير إليه، لكن المناسب لما بعد أن يراد عذاب الاستئصال في الدنيا ولا يلزم من انتفاء العذاب الدنيوي قبل البعث انتفاء الوجوب؛ لأن لازم الوجوب عندهم هو العذاب الأخروي، وأجيب بعد تسليم أن المناسب لما بعد أن يراد العذاب الدنيوي بأن الآية لما دلت على أنه لا يليق بحكمته إيصال العذاب الأدنى على ترك الواجب قبل التنبيه ببعثة الرسول فدلالتها على عدم إيصال العذاب الأكبر على تركه قبل ذلك أولى، وأورد الأصفهاني في شرح المحصول على من استدل بالآية على نفي الوجوب العقلي قبل البعثة أمورا، الأول: أن المراد بالرسول فيها العقل، الثاني: أنا سلمنا أن المراد النبي المرسل لكن الآية دلت على نفي تعذيب المباشرة قبل البعثة ولا يلزم منه نفي مطلق التعذيب.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنا سلمنا ذلك لكن ليس في الآية دلالة على نفي التعذيب قبلها عن كل الذنوب، الرابع: أنا سلمنا الدلالة لكن لا يلزم من نفي المؤاخذة انتفاء الاستحقاق لجواز سقوط المؤاخذة بالمغفرة، ثم أجاب عن الأول بأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وعن الثاني بأن من شأن عظيم القدر التعبير عن نفي التعذيب مطلقا بنفي المباشرة، وعن الثالث بما أشرنا إليه من أن تقدير الكلام: وما كنا معذبين أحدا ويلزم من ذلك انتفاء تعذيب كل واحد من الناس؛ وذلك هو المطلوب لأن الخصم لا يقول به.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الرابع بأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة وانتفاؤه قبلها ظاهرا يدل على عدم الوجوب قبلها، فمن ادعى أن الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز بالمغفرة فعليه البيان اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أنه إذا كان الاستدلال إلزاميا كما قال به غير واحد لا يرد الأمر الرابع أصلا لأن المعتزلة لا يجوزون العفو عن تارك الواجب العقلي، وقد أشرنا إلى ذلك، نعم قال المراغي في شرح منهاج الأصول للقاضي: لا حاجة إلى جعل الدليل إلزاميا بل يجوز إتمامه على تقدير جواز العفو أيضا بأن يقال: وقوع العذاب وإن لم يكن لازما للوجوب لكن عدم الأمن من وقوعه لازم له ضرورة؛ إذ يجوز العقاب على ترك الواجب عندنا وإن لم يجب وهذا اللازم أعني عدم الأمن منتف لدلالة الآية على عدم وقوعه فينتفي الملزوم.

                                                                                                                                                                                                                                      ورد ذلك أولا بمنع أن عدم الأمن من وقوع العذاب من لوازم ترك الواجب مطلقا بل عدم الأمن إذا لم يتيقن عدم وقوع العذاب بدليل آخر، وأما ثانيا فبأن انتفاء عدم الأمن إنما هو بالآية إذ قبل ورودها كان العقاب جائزا ولا شك أن انتفاءه بها انتفاء بالعفو لأن معنى العفو عدم العقاب، والآية تدل عليه فلم يتم الدليل على تقدير جواز العفو وهو كما ترى، وقيل: نجعل اللازم جواز العقاب فيتم الدليل تحقيقا لأن جواز العفو [ ص: 38 ] لا ينافي جواز العقاب. ورد بأن الملازمة القائلة بأنه لو كان الوجوب ثابتا قبل الشرع لعذب تارك الواجب، وإن كانت مسلمة حينئذ لكن بطلان التالي ممنوع؛ لأن الآية إنما تدل على نفي وقوع العذاب لا على نفي جوازه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه أن معنى: ما كنا معذبين ما سمعت وهو يدل على نفي الجواز، وقد كثر استعمال هذا التركيب في ذلك كقوله تعالى: وما كنا ظالمين ، (وما كنا لاعبين) إلى غير ذلك، ولو أريد نفي الوقوع لقيل: وما نعذب حتى نبعث رسولا.

                                                                                                                                                                                                                                      وضعف الإمام الاستدلال بالآية بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة، وهذا باطل فذاك باطل. قال: بيان الملازمة من وجوه، أحدها: أنه إذا جاء الشارع وادعى كونه نبيا من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب، فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة، وإن وجب فإما أن يجب بالشرع أو بالعقل، فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي، وإن وجب بالشرع فهو باطل؛ لأن ذلك الشارع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره، والأول باطل؛ لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن يقول ذلك الرجل: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول: يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان غيره كان الكلام فيه كما في الأول، ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان.

                                                                                                                                                                                                                                      وثانيها: أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول: لو تركت كذا أو فعلت كذا لعاقبتك، فنقول: إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب، فإن لم يجب لم يتقرر معنى الوجوب البتة، وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع، فإن وجب بالعقل فهو المقصود، وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال.

                                                                                                                                                                                                                                      وثالثها أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى العفو عن العقاب على ترك الواجب، وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال: إن ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف، وأن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال: الوجوب حاصل بمجرد العقل، فإن قالوا: ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الذم قلنا: إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقبه العبادي بأنه يمكن الجواب عن الأول بأنه إذا أظهر المعجزة على دعواه أنه رسول ثبت صدقه كما تقرر في محله فيجب قبول قوله في كل ما يخبر عن الله تعالى من غير لزوم محذور من إثبات الشيء بنفسه أو الدور أو التسلسل، وإن كان ثبوت ما أخبر بالشرع بمعنى أن ثبوته بإخبار من ثبتت رسالته بالمعجزة عن الله تعالى بذلك وليس حاصل الكلام على هذا أنه يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول: يجب قولي حتى يلزم ما يلزم بل حاصله أنه يقول: يجب قبول قولي لأنه ثبت أني رسول الله تعالى فيجب صدقي وتصديقي في كل ما أدعيه، وليس في هذا شيء من المحاذير السابقة، وقد صرح السيد السند في شرح المواقف بأنه يثبت الشرع وتجب المتابعة بمجرد دعوى الرسالة مع اقتران المعجزة وتمكن المبعوث إليه العاقل من النظر وإن لم ينظر، وذكر أنه حينئذ لا يجوز للمكلف الاستمهال ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاب العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه فعلم أنه بمجرد دعوى الرسالة مع ما ذكر يثبت الوجوب بإخباره [ ص: 39 ] وهو ثبوت الشرع لأن معنى الثبوت به هو الثبوت بالإخبار عن الله تعالى حقيقة أو حكما، وعلى هذا لا يتأتى الترديد الذي ذكره بقوله؛ لأن ذلك الشرع إما أن يكون إلخ. فليتأمل، وعن الثاني بأن وجوب الاحتراز عن العقاب ليس أمرا أجنبيا عن وجوب كذا حتى يتوجه عليه الترديد الذي ذكره بل هو نفس وجوب كذا أو لازمه؛ إذ الاحتراز ليس إلا بالإتيان بكذا الذي هو الواجب، فوجوب الاحتراز أما وجوب كذا أو لازمه فوجوبه بوجوبه فلا يلزم الترديد المذكور.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الثالث بأنه إن أراد بقوله: إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب أن حصول الواجب في الخارج بالإتيان به إنما هو بسبب حصول الخوف فليس الكلام فيه ومع ذلك أنا لا نسلم أن الإتيان بالواجب متوقف على حصول الخوف وإن أراد أن تحقق وجوب الواجب أي تعلق وجوبه بالمكلف الذي هو التكليف التنجيزي متوقف على حصول الخوف المذكور فهو ممنوع كما هو ظاهر. اه. فتدبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على تقدير تمامه لا يختص بالمعتزلة بل يشاركهم في ذلك أحد فريقي الحنفية من أهل السنة وهم الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند لأنهم وإن لم يقولوا كالمعتزلة بأن العقل حاكم بالحسن والقبح اللذين أثبتوهما جميعا لكنهم قالوا: إن العقل آلة للعلم بهما فيخلقه الله تعالى عقيب نظر العقل نظرا صحيحا، وأوجبوا الإيمان بالله تعالى وتعظيمه وحرموا نسبة ما هو شنيع إليه سبحانه حتى روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد صرح غير واحد من علمائهم بأن العقل حجة من حجج الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع، واحتجوا في ذلك بما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله لأبيه وقومه: إني أراك وقومك في ضلال مبين حيث قال ذلك ولم يقل: أوحي إلي، ومن استدلاله بالنجوم ومعرفة الله تعالى بها وجعلها حجة على قومه وكذاك كل الرسل حاجوا قومهم بحجج العقل كما ينبئ عنه قوله تعالى: قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض الآية. بقوله تعالى: ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية. حيث لم يقل: ومن يدع مع الله إلها آخر بعد ما أوحي إليه أو بلغته الدعوة، وبقوله سبحانه خبرا عن أهل النار: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير حيث أخبروا أنهم صاروا في النار لتركهم الانتفاع بالسمع والعقل.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه أنهم لو انتفعوا بالعقول في معرفة الصانع قبل ورود الشرع لم يصيروا في النار، وبأن الحجج السمعية لم تكن حججا إلا باستدلال عقلي، وبأن دعاء جميع الكفرة إلى دين الإسلام واجب على الأمة، ومعلوم أن الدهرية لا يحتج عليهم بكلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا حجج العقول إلى غير ذلك، وحينئذ يقال لهم:

                                                                                                                                                                                                                                      لو وجب على الخلق معرفة الله تعالى والإيمان به قبل بعثة رسول لزم تعذيب الكافر قبلها؛ لإخباره تعالى بأنه لا يغفر الشرك به، وقد نفى التعذيب في الآية فلا وجوب ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم على نهج ما فعل مع المعتزلة، والإمام الرازي بعد أن ضعف الاستدلال بالآية وأثبت الوجوب العقلي ذكر في الآية وجهين، الأول: حمل الرسول على العقل، والثاني: تخصيص العموم بأن يقال: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى [ ص: 40 ] معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ثم قال: والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به ويمتنع أن يحكم العقل عليه تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم ما قيل من حمل الرسول على العقل وهو خلاف استعمال القرآن الكريم، ويبعده توبيخ الخزنة الكفار بقولهم: أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ولم يقولوا: أولم تكونوا عقلاء، وحمل الرسول فيه على العقل مما لا يرتضيه العقل، واعتذر هو عن التخصيص بأنه وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه إذا قام الدليل عليه وقد قام بزعمه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأبو منصور الماتريدي ومتبعوه حملوا الآية على نفي تعذيب الاستئصال في الدنيا، وذهب هؤلاء إلى تعذيب أهل الفترة بترك الإيمان والتوحيد وهم كل من كان بين رسولين ولم يكن الأول مرسلا إليهم ولا أدركوا الثاني، واعتمد القول بتعذيبهم النووي في شرح مسلم فقال: إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام، والظاهر أن النووي يكتفي في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل وإن لم يكن مرسلا إليه فلا منافاة بين حكمه بأنهم أهل فترة بالمعنى السابق وحكمه بأن الدعوة بلغتهم خلافا للآبي في زعمه ذلك، نعم إنما تلزم المنافاة لو ادعى أن من تقدمهم من الرسل مرسل إليهم وليس فليس.

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى ذلك ذهب الحليمي فقال في منهاجه: إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضا عن الدعوة فكفر، ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم؛ فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق ولو أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلها ولا نرى أن ذلك يكون، فأمره على الاختلاف في أن الإيمان هل يجب بمجرد العقل أو لا بد من انضمام النقل، وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أحد بالإيمان بعد وجود دعوة أحد من الرسل وإن لم يكن رسولا إليه، وبالغ بعضهم في اعتماد ذلك حتى قال: فمن بلغته دعوة أحد من الرسل عليهم السلام بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر من أهل النار فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار اه.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء أن أهل الفترة لا يعذبون وأطلقوا القول في ذلك، وقد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة، وأجيب بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة، وبأنه يجوز أن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه، وقيل: إن تعذيب هؤلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على من غير وبدل من أهل الفترة بما لا يعذر به كعبادة الأوثان [ ص: 41 ] وتغيير الشرائع كما فعل عمرو بن لحي ولا يخفى أن هذا لا يوافق إطلاق هؤلاء الأئمة ولا القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولو أمكن أن يكون من ثبت تعذيبه من اتباع من بقي شرعه إذ ذاك كعيسى عليه السلام لم يبق أشكال أصلا، واستدل بعض من يقول بتعذيبهم مطلقا بما أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ عقلا: يا رب، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني. ويقول الهالك في الفترة: يا رب، لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني. ويقول الهالك صغيرا: يا رب، لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني. فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: فاذهبوا فادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا، فتخرج عليهم قوابص من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء، فيرجعون سراعا ويقولون: يا ربنا، خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء، ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك ويقولون كذلك فيقول الرب تعالى: خلقتكم على علمي، وإلى علمي تصيرون، يا نار ضميهم فتأخذهم النار».

                                                                                                                                                                                                                                      وبعض الأخبار يقتضي أن منهم من يعذب ومنهم من لا يعذب.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب، جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول. فيأخذ سبحانه مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها سحب إليها».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بأربعة. بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني، كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم: ابرزي. ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم. فيقول لهم: ادخلوا هذه. فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب، أتدخلناها ومنها كنا نفر؟ وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب تعالى: قد عاينتموني فعصيتموني. فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار».

                                                                                                                                                                                                                                      إلى غير ذلك من الأخبار، ويحتج بها من قال بانقسام ذراري المشركين بل وذراري المؤمنين وفي القلب من صحتها شيء، وإن قال في الإصابة: إنها وردت من عدة طرق، وعلى تقدير صحتها فمعارضها أصح منها، والذي يميل إليه القلب أن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدته وتنزهه عن الولد سبحانه قبل ورود الشرع للأدلة السابقة وغيرها وإن كان في بعضها ما يقال، وإرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة منه تعالى، أو أن ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل الله تعالى رسولا ولاكتفى به. وقيل في جوابه: لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه بعث الله تعالى الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين لا لنفس معرفة الخالق؛ فإنها تنال ببداية العقول، فالبعرة [ ص: 42 ] تدل على البعير، والأثر على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير.

                                                                                                                                                                                                                                      وأيضا إن الله تعالى لم يدعنا ورسولا من أول الأمر إلى آخره، والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقيت بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ولم يدل ذلك على أن الأول لم يكن حجة كافية، وكذلك لم يدعنا سبحانه، والبيان بآية واحدة بل من علينا جل شأنه بآيات متكررة، ولا يدل ذلك أن الآية الواحدة لم تكن حجة كافية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى خبرا عن قول الخزنة لأهل النار: أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات توبيخ بالأظهر، وهو لا يدل على أن الآخر ليس بحجة، وقوله تعالى: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل على معنى: لئلا يكون لهم احتجاج بزعمهم بأن يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا ، وقوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون محمول على الإهلاك بعذاب الاستئصال في الدنيا على تكذيب الرسل، وأما جزاء الكفر فالنار في العقبى، وكذا يقال في الآية التي نحن فيها لكثرة ما يدعو إليه فلا عذر لمن لم يعرف ربه سبحانه من أهل الفترة إذا كان عاقلا مميزا متمكنا من النظر والاستدلال لا سيما إذا بلغته دعوة رسول من الرسل عليهم السلام، ولا يكاد يوجد من لم تبلغه كما سمعت عن الحليمي وقيل بوجوده في أمريقا وهي المسماة بيكي دنيا قبل أن يظفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كرشتوفيل المشهور بقلوبنو فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوة رسول أصلا، ثم المفهوم من كلام الأجلة أن النزاع إنما هو بالنسبة لأحكام الإيمان بالله تعالى بخلاف الفروع فلا خلاف في أنها لا تثبت إلا في حق من بلغته دعوة من أرسل إليه وهو الظاهر، نعم ما اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه النزاع المتقدم؟ فيه نظر، وأما الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم فليس بواجب على من لم تبلغه دعوته؛ إذ ليس للعقل في ذلك مجال كما لا يخفى على ذي عقل، بل قال حجة الإسلام الغزالي: الناس بعد بعثته عليه الصلاة والسلام أصناف: صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا فأولئك مقطوع لهم بالجنة، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا، فأولئك مقطوع لهم بالنار، وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة والسلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال وحاشا قدره الشريف صلى الله عليه وسلم عن ذلك فهؤلاء أرجو لهم الجنة؛ إذ لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به اه، ولعل القطع بالجنة للأولين ورجاءها للآخرين إنما يكونان إذا كانوا مؤمنين بالله تعالى، وأما إذا لم يكونوا كذلك فهم على الخلاف، ثم إن مسألة عدم الوجوب قبل ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني: إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها فإن كانت علمية فلا يمكن إثباتها بالدلائل الظنية، وفيها عندهم نوع اكتفاء، أي: وما كنا معذبين ولا مثيبين حتى نبعث رسولا، قالوا: واستغنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب ولم يعكس لأنه أظهر منه في تحقق معنى التكليف فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية