الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 46 ] سورة الانفطار

                                                                                                                                                                                                                                      وهي مكية كلها بإجماعهم

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إذا السماء انفطرت انفطارها: انشقاقها . و انتثرت بمعنى تساقطت . و فجرت بمعنى فتح بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا . وقال الحسن: ذهب ماؤها، و بعثرت بمعنى أثيرت . قال ابن قتيبة: قلبت فأخرج ما فيها . يقال: بعثرت المتاع وبحثرته: إذا جعلت أسفله أعلاه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 47 ] قوله تعالى: علمت نفس ما قدمت وأخرت هذا جواب الكلام . وقد شرحناه في قوله تعالى: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [القيامة: 13] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يا أيها الإنسان فيه أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه عني به أبو الأشدين، وكان كافرا، قاله ابن عباس، ومقاتل . وقد ذكرنا اسمه في [المدثر: 30] .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الوليد بن المغيرة، قاله عطاء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أبي بن خلف، قاله عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه أشار إلى كل كافر، ذكره الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ما غرك قال الزجاج: أي: ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك؟ . وقال غيره: المعنى: ما الذي أمنك من عقابه وهو كريم متجاوز إذ لم يعاقبك عاجلا؟ وقيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله سبحانه يوم القيامة، وقال: ما غرك بربك الكريم، ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرني ستورك المرخاة . وقال يحيى بن معاذ: لو قال لي: ما غرك بي؟ قلت: برك سالفا وآنفا . قيل: لما ذكر الصفة التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته، كان كأنه لقن عبده الجواب، ليقول: غرني كرم الكريم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: الذي خلقك ولم تك شيئا فسواك إنسانا تسمع وتبصر [ ص: 48 ] فعدلك قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: " فعدلك " بالتشديد . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " فعدلك " بالتخفيف . قال الفراء: من قرأ بالتخفيف، فوجهه -والله أعلم-: فصورك إلى أي صورة شاء، إما حسن، وإما قبيح، وإما طويل، وإما قصير . وقيل: في صورة أب، في صورة عم، في صورة بعض القرابات تشبيها . ومن قرأ بالتشديد، فإنه أراد -والله أعلم-: جعلك معتدلا، معدل الخلقة . وقال غيره: عدل أعضاءك فلم تفضل يد على يد، ولا رجل على رجل، وعدل بك أن يجعلك حيوانا بهيما .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: في أي صورة ما شاء ركبك قال الزجاج: يجوز أن تكون " ما " زائدة . ويجوز أن تكون بمعنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى: في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك . وفي معنى الآية أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: في أي صورة من صور القرابات ركبك، وهو معنى قول مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: في أي صورة، من حسن، أو قبح، أو طول، أو قصر، أو ذكر، أو أنثى، وهو معنى قول الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: إن شاء أن يركبك في غير صورة الإنسان ركبك، قاله مقاتل . وقال عكرمة: إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير . وإن شاء في صورة حمار بالبلادة والبله، وإن شاء في صورة كلب بالبخل، أو خنزير بالشره، ذكره الثعلبي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: بل تكذبون بالدين وقرأ أبو جعفر " بالياء " أي بالجزاء والحساب، تزعمون أنه غير كائن . ثم أعلمهم أن أعمالهم محفوظة، فقال [ ص: 49 ] تعالى: وإن عليكم لحافظين أي: من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كراما على ربهم كاتبين يكتبون أعمالكم يعلمون ما تفعلون من خير وشر، فيكتبونه عليكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وذلك في الآخرة إذا دخلوا الجنة وإن الفجار وفيهم قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنهم المشركون .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: الظلمة . ونقل عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لأبي حازم: يا ليت شعري ما لنا عند الله؟ فقال له: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عنده، فقال: وأين أجده؟ قال: عند قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يصلونها يعني: يدخلون الجحيم مقاسين حرها يوم الدين أي: يوم الجزاء على الأعمال وما هم عنها أي: عن الجحيم بغائبين وهذا يدل على تخليد الكفار . وأجاز بعض العلماء أن تكون " عنها " كناية عن القيامة، فتكون فائدة الكلام تحقيق البعث . ويشتمل هذا على الأبرار والفجار . ثم عظم ذلك اليوم بقوله تعالى: وما أدراك ما يوم الدين ثم كرر ذلك تفخيما لشأنه، وكان ابن السائب يقول: الخطاب بهذا للإنسان الكافر، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يوم لا تملك نفس لنفس قرأ ابن كثير، وأبو عمرو " يوم " [ ص: 50 ] بالرفع، والباقون: بالفتح . قال الزجاج: من رفع " اليوم " ، فعلى أنه صفة لقوله تعالى: " يوم الدين " . ويجوز أن يكون رفعه بإضمار " هو " ونصبه على معنى: هذه الأشياء المذكورة تكون يوم لا تملك نفس لنفس شيئا قال المفسرون: ومعنى الآية أنه لا يملك الأمر أحد إلا الله، ولم يملك أحدا من الخلق شيئا كما ملكهم في الدنيا . وكان مقاتل يقول: لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا من المنفعة . والقول على الإطلاق أصح، لأن مقاتلا فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين . والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية