الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله

                                                                                                                57 حدثني حرملة بن يحيى بن عبد الله بن عمران التجيبي أنبأنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب يقولان قال أبو هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن قال ابن شهاب فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عن أبي هريرة ثم يقول وكان أبو هريرة يلحق معهن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد قال حدثني أبي عن جدي قال حدثني عقيل بن خالد قال قال ابن شهاب أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزني الزاني واقتص الحديث بمثله يذكر مع ذكر النهبة ولم يذكر ذات شرف قال ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي بكر هذا إلا النهبة وحدثني محمد بن مهران الرازي قال أخبرني عيسى بن يونس حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث عقيل عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وذكر النهبة ولم يقل ذات شرف وحدثني حسن بن علي الحلواني حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن المطلب عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مولى ميمونة وحميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كل هؤلاء بمثل حديث الزهري غير أن العلاء وصفوان بن سليم ليس في حديثهما يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وفي حديث همام يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن وزاد ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ( ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله )

                                                                                                                في الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو [ ص: 232 ] مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) الحديث وفي رواية : ( ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن ) وفي رواية ( والتوبة معروضة بعد ) ، هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه . فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه : لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان . وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره كما يقال : لا علم إلا ما نفع ، ولا مال إلا الإبل ، ولا عيش إلا عيش الآخرة . وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ، ولا يعصوا إلى آخره . ثم قال لهم - صلى الله عليه وسلم - فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته ، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك ، لا يكفرون بذلك ، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان . إن تابوا سقطت عقوبتهم ، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة . فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة . وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه . ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير . وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا وجب الجمع بينهما . وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا . وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلا له مع علمه بورود الشرع بتحريمه . وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري : معناه ينزع منه اسم المدح الذي يسمي به أولياء الله المؤمنين ، ويستحق اسم الذم فيقال : سارق ، وزان وفاجر ، وفاسق . وحكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معناه : ينزع منه نور الإيمان . وفيه حديث مرفوع . وقال المهلب : ينزع منه بصيرته في طاعة الله تعالى . وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث . وما أشبهه ، يؤمن بها ، ويمر على ما جاءت ، ولا يخاض في معناها وأنا لا نعلم معناها . وقال : أمروها كما أمرها من قبلكم . وقيل في معنى الحديث غير ما ذكرته مما ليس بظاهر ، بل [ ص: 233 ] بعضها غلط ، فتركتها . وهذه الأقوال التي ذكرتها في تأويله كلها محتملة . والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولا والله أعلم .

                                                                                                                وأما قول ابن وهب : ( أخبرني يونس عن ابن شهاب قال : سمعت أبا سلمة وسعيد بن المسيب يقولان : قال أبو هريرة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن إلى آخره قال ابن شهاب فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عن أبي هريرة ثم يقول : وكان أبو هريرة يلحق معهن : ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ) فظاهر هذا الكلام أن قوله ( ولا ينتهب إلى آخره ) ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه - ، موقوف عليه ، ولكن جاء في رواية أخرى ما يدل على أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد جمع الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - في ذلك كلاما حسنا فقال : روى أبو نعيم في مخرجه على كتاب مسلم - رحمه الله - من حديث همام بن منبه هذا الحديث ، وفيه والذي نفسي بيده لا ينتهب أحدكم وهذا مصرح برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : ولم يستغن عن ذكر هذا بأن البخاري رواه من حديث الليث بإسناده هذا الذي ذكره مسلم عنه معطوفا فيه ذكر النهبة على ما بعد قوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسقا من غير فصل بقوله ، وكان أبو هريرة يلحق معهن ذلك . وذلك مراد مسلم - رحمه الله - بقوله : واقتص الحديث يذكر مع ذكر النهبة ولم يذكر ذات شرف وإنما لم يكتف بهذا في الاستدلال على كون النهبة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد يعد ذلك من قبل المدرج في الحديث من كلام بعض رواته استدلالا بقول من فصل ، فقال : وكان أبو هريرة يلحق معهن . وما رواه أبو نعيم يرتفع عن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال . وظهر بذلك أن قول أبي بكر بن عبد الرحمن : وكان أبو هريرة يلحق معهن معناه يلحقها رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا من عند نفسه ، وكأن أبا بكر خصها بذلك لكونه بلغه أن غيره لا يرويها . ودليل ذلك ما تراه من رواية مسلم - رحمه الله - الحديث من رواية عقيل أن ابن شهاب عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة من غير ذكر النهبة . ثم إن في رواية عقيل أن ابن شهاب روى ذكر النهبة عن أبي بكر بن عبد الرحمن نفسه وفي رواية يونس عبد الملك بن أبي عكرمة عنه . فكأنه سمع ذلك من ابنه عنه ، ثم سمعه منه نفسه .

                                                                                                                وأما قول مسلم - رحمه الله - : ( واقتص الحديث يذكر مع ذكر النهبة ) فكذا وقع يذكر من غير هاء الضمير فإما أن يقال حذفها مع إرادتها ، وإما أن يقرأ ( يذكر ) بضم أوله وفتح الكاف على ما لم يسم فاعله ، على أنه حال ، أي اقتص الحديث مذكورا مع ذكر النهبة . هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو - رحمه الله - . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله : ( ذات شرف ) فهو في الرواية المعروفة والأصول المشهورة المتداولة بالشين المعجمة [ ص: 234 ] المفتوحة ، وكذا نقله القاضي عياض - رحمه الله - عن جميع الرواة لمسلم . ومعناه ذات قدر عظيم ، وقيل ذات استشراف يستشرف الناس لها ناظرين إليها رافعين أبصارهم . قال القاضي وغيره رحمهم الله : ورواه إبراهيم الحربي بالسين المهملة . قال الشيخ أبو عمرو : وكذا قيده بعضهم في كتاب مسلم ، وقال : معناه أيضا ذات قدر عظيم . والله أعلم .

                                                                                                                ( والنهبة ) بضم النون وهي ما ينهبه .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يغل ) فهو بفتح الياء وضم الغين وتشديد اللام ورفعها ، وهو من الغلول ، وهو الخيانة .

                                                                                                                وأما قوله : ( فإياكم إياكم ) فهكذا هو في الروايات إياكم إياكم مرتين ومعناه احذروا احذروا . يقال : إياك وفلانا أي احذره ، ويقال إياك أي احذر من غير ذكر فلان كما وقع هنا .




                                                                                                                الخدمات العلمية