الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3261 [ ص: 551 ] كتاب السير

                                                                                                                              جمع " السيرة"، مثل: " سدرة وسدر" والسيرة: الطريقة، والهيئة. وغلب اسم " السير"، في عرف الفقهاء على " المغازي ".

                                                                                                                              وهذا الكتاب، فيه أبواب تأتي بشرحها.

                                                                                                                              باب في الأمراء على الجيوش والسرايا، والوصية لهم بما ينبغي

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب تأمير الإمام: الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو، وغيرها) .

                                                                                                                              وذكره في المنتقى في (باب الدعوة قبل القتال) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 37 - 40 جـ 12 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان . ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا يحيى بن آدم . حدثنا سفيان . قال: أملاه علينا إملاء. ح وحدثني عبد الله بن هاشم (واللفظ له) . حدثني عبد الرحمن (يعني: ابن مهدي) . حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا . ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا، ولا تمثلوا [ ص: 552 ] ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم . ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين . وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم: أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين . ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا، فسلهم الجزية . فإن هم أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم. فإن هم أبوا، فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة نبيه: فلا تجعل لهم ذمة الله، ولا ذمة نبيه. ولكن اجعل لهم ذمتك، وذمة أصحابك. فإنكم؛ أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله . ولكن أنزلهم على حكمك . فإنك لا تدري: أتصيب حكم الله فيهم أم لا" قال عبد الرحمن : هذا، أو نحوه. وزاد إسحاق في آخر حديثه عن يحيى بن آدم قال: فذكرت هذا الحديث لمقاتل بن حيان . (قال يحيى : يعني أن علقمة يقوله لابن حيان ) فقال: حدثني مسلم بن هيصم ، عن النعمان بن مقرن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ] .

                                                                                                                              [ ص: 553 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 553 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن بريدة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، إذا أمر أميرا على جيش، أو سرية) هي قطعة من الجيش، تنفصل عنه وتخرج منه، تغير وترجع وتعود إليه.

                                                                                                                              قال إبراهيم الحربي: هي " الخيل " تبلغ أربعمائة ونحوها. سميت بها: لأنها تسري في الليل وتخفي ذهابها. وهي فعيلة بمعنى " فاعلة ". يقال: سرى وأسرى: إذا ذهب ليلا.

                                                                                                                              (أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل، ومن معه من المسلمين خيرا. ثم قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا) بضم الغين. أي: لا تخونوا، إذا غنمتم شيئا.

                                                                                                                              (ولا تغدروا) بكسر الدال وضمها. وهو ضد الوفاء، - (ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا) وهو الصبي.

                                                                                                                              قال النووي : وفي هذه الكلمات فوائد مجمع عليها، وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا)، وكراهة المثلة. واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه، بتقوى الله [ ص: 554 ] تعالى. والرفق بأتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم، وما يجب عليهم، وما يحل لهم وما يحرم عليهم، وما يكره وما يستحب. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: النهي حقيقة في التحريم. فلا وجه للحكم على بعض هذه المنهيات بالتحريم، وعلى بعضها بالكراهة.

                                                                                                                              (وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال " أو خلال ". فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم) .

                                                                                                                              فيه: دليل على وجوب دعاء الكفار إلى الإسلام، قبل المقاتلة. وفي المسألة ثلاثة مذاهب؛ الأول: أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام، من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه. وبه قال مالك وغيره. قال في النيل: وظاهر الحديث معهم.

                                                                                                                              والثاني: أنه لا يجب مطلقا.

                                                                                                                              والثالث: أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة. ولا يجب إن بلغتهم، لكن يستحب. قال ابن المنذر: وهو قول جمهور أهل العلم. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه. وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث.

                                                                                                                              (ثم ادعهم إلى الإسلام) . هكذا هو في جميع النسخ. قال عياض :

                                                                                                                              [ ص: 555 ] صوابه: " ادعهم " بإسقاط "ثم ". وقد جاء بإسقاطها في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود، وغيرهما. لأنه تفسير للخصال الثلاث وليس غيرها. وقال المازري: ليست "ثم" هنا زائدة، بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ.

                                                                                                                              (فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين) .

                                                                                                                              فيه: ترغيب الكفار بعد إجابتهم وإسلامهم، إلى الهجرة إلى ديار المسلمين. لأن الوقوف بالبادية، ربما كان سببا لعدم معرفة الشريعة، لقلة من فيها من أهل العلم.

                                                                                                                              (وأخبرهم: أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم: أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) .

                                                                                                                              قال النووي : معنى هذا الحديث: أنهم إذا أسلموا، استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة. فإن فعلوا ذلك، كانوا كالمهاجرين قبلهم، في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك. وإلا، فهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية، من غير هجرة ولا غزو، فتجري [ ص: 556 ] عليهم أحكام الإسلام، ولا حق لهم في الغنيمة والفيء. وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة، إن كانوا بصفة استحقاقها.

                                                                                                                              قال الشافعي : " الصدقات"، للمساكين ونحوهم، ممن لا حق له في الفيء. " والفيء " للأجناد. قال: ولا يعطى أهل الفيء من الصدقات، ولا أهل الصدقات من الفيء. واحتج بهذا الحديث.

                                                                                                                              وقال مالك، وأبو حنيفة: " المالان " سواء. ويجوز صرف كل واحد منهما إلى النوعين.

                                                                                                                              وقال أبو عبيد: هذا الحديث منسوخ. وإنما كان هذا الحكم في أول الإسلام لمن لم يهاجر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض . وهذا الذي ادعاه أبو عبيد: لا يسلم له.

                                                                                                                              (فإن هم أبوا، فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم) . هذا مما يستدل به مالك، والأوزاعي وموافقوهما، في جواز أخذ الجزية، من كل كافر، عربيا كان أو عجميا. كتابيا كان أو مجوسيا. أو غيرهما. وهذا ظاهر الحديث.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: تؤخذ من جميع الكفار، إلا مشركي العرب ومجوسهم.

                                                                                                                              ولفظ النيل: ذهب أبو حنيفة: إلى أن الجزية لا تقبل من العربي غير الكتابي، وتقبل من الكتابي، ومن العجمي. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 557 ] وقال الشافعي : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، عربا كانوا أو عجما. ويحتج بمفهوم آية الجزية: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بعد ذكر أهل الكتاب، وبحديث: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب ". ويتأول هذا الحديث، على أن المراد بأخذ الجزية: " أهل الكتاب" . لأن اسم " المشرك " يطلق على أهل الكتاب وغيرهم.

                                                                                                                              وكان تخصيصهم معلوما عند الصحابة. وأما سائر المشركين، فهم داخلون تحت عموم: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .

                                                                                                                              قال النووي : واختلفوا في قدر الجزية؛ فقال الشافعي : أقلها دينار على الغني، ودينار على الفقير أيضا، في كل سنة. وأكثرها: ما يقع به التراضي.

                                                                                                                              وقال مالك: هي أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الفضة.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين، وأحمد: على الغني ثمانية وأربعون درهما، والمتوسط أربعة وعشرون، والفقير اثنا عشر. انتهى.

                                                                                                                              وتمام هذا البحث، في نيل الأوطار، في باب " أخذ الجزية وعقد الذمة " فراجعه.

                                                                                                                              [ ص: 558 ] قال أهل العلم: والحكمة في وضع الجزية: أن الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في الإسلام، مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام. واختلف في السنة التي شرعت فيها؛ فقيل: في سنة ثمان.

                                                                                                                              وقيل: في سنة تسع. والله أعلم.

                                                                                                                              (فإن هم أبوا، فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: فلا تجعل لهم ذمة الله، ولا ذمة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم) .

                                                                                                                              قال العلماء: الذمة هنا: العهد.

                                                                                                                              وفي النيل: " الذمة ": عقد الصلح والمهادنة. وإنما نهى عن ذلك؛ لئلا ينقض الذمة: من لا يعرف حقها. وينتهك حرمتها: بعض من لا تمييز له من الجيش. فيكون ذلك أشد؛ لأن نقض ذمة الله ورسوله: أشد من نقض ذمة أمير الجيش، أو ذمة جميع الجيش، وإن كان نقض الكل محرما. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 559 ] " وتخفروا " بضم التاء. يقال: " أخفرت الرجل ": إذا نقضت عهده. " وخفرته"، أمنته وحميته.

                                                                                                                              قال النووي : وهذا نهي تنزيه.

                                                                                                                              (وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري: أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟) .

                                                                                                                              قال النووي : هذا النهي أيضا على التنزيه والاحتياط. انتهى. ونحوه في النيل، وزاد: والوجه: ما سلف؛ ولهذا قال صلى الله عليه) وآله وسلم: " فإنك لا تدري إلخ ".

                                                                                                                              قال النووي : وفيه: حجة لمن يقول: ليس كل مجتهد مصيبا. بل المصيب واحد، وهو الموافق لحكم الله تعالى في نفس الأمر. وقد يجيب عنه القائلون بأن كل مجتهد مصيب: بأن المراد: أنك لا تأمن من أن يتنزل علي وحي، بخلاف ما حكمت. وهذا المعنى منتف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: الخلاف في المسألة، مشهور مبسوط في مواضعه. والحق:

                                                                                                                              أن كل مجتهد مصيب من الصواب، لا من الإصابة. والله أعلم.

                                                                                                                              (قال عبد الرحمن - يعني: ابن مهدي- هذا أو نحوه) وذكره مسلم بطرق.

                                                                                                                              [ ص: 560 ] قال في المنتقى: هذا الحديث، رواه أحمد، ومسلم ، وابن ماجه، والترمذي وصححه. وهو حجة في أن قبول الجزية، لا يختص بأهل الكتاب. وأن ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق عند الله واحد. وفيه: المنع من قتل الولدان ومن التمثيل. انتهى.




                                                                                                                              الخدمات العلمية