الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 459 ] ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها جهز السلطان الملك الظاهر عسكرا جما كثيفا إلى ناحية الفرات لطرد التتار النازلين بالبيرة ، فلما سمعوا بالعساكر الظاهرية قد أقبلت تولوا على أعقابهم منهزمين ، والحمد لله رب العالمين ، فطابت تلك الناحية وأمنت تلك المعاملة ، وقد كانت قبل ذلك لا تسكن من كثرة الفساد بها والخوف ، فعمرت وأمنت ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها خرج الملك الظاهر في عساكر أخر عظيمة ، فقصد بلاد الساحل لحصار الفرنج ، ففتح قيسارية في ثلاث ساعات من يوم الخميس ثامن جمادى الأولى وهو يوم نزوله عليها ، وتسلم قلعتها في يوم الخميس الآخر خامس عشرة فهدمها ، وانتقل إلى غيرها ، ولله الحمد والمنة ، ثم جاء الخبر بأنه فتح مدينة أرسوف ، وقتل من بها من الفرنج ، وجاءت البريدية بذلك ، فدقت البشائر في بلاد المسلمين ، وفرحوا بذلك فرحا شديدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ورد خبر من بلاد المغرب بأنهم انتصروا على الفرنج ، وقتلوا منهم خمسة وأربعين ألف مقاتل وأسروا عشرة آلاف ، واسترجعوا منهم ثنتين [ ص: 460 ] وثلاثين بلدة منها شريش وإشبيلية وقرطبة ومرسية ، وكانت النصرة في يوم الخميس الرابع عشر من رمضان سنة ثنتين وستين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي رمضان من هذه السنة شرع في تبليط باب البريد من باب الجامع إلى القناة التي عند الدرج ، وعمل في الصف القبلي منها بركة وشاذروان . وكان في موضعها قناة من القنوات ينتفع الناس بها عند انقطاع نهر بانياس ، فغيرت وعمل هذا الشاذروان . قلت : ثم غير ذلك وعمل مكانه دكاكين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها استدعى السلطان نائبه على دمشق الأمير جمال الدين آقوش النجيبي ، فسار إليه سمعا وطاعة ، وقد ناب عنه الأمير علم الدين الحصني حتى عاد مكرما معززا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ولى السلطان الملك الظاهر من بقية المذاهب قضاة في الديار المصرية مستقلين ، يولون من جهتهم في البلدان أيضا كما يولي الشافعي ، فكان للشافعية تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز ، وتولى قضاء الحنفية شمس الدين سليمان ، وقضاء المالكية شمس الدين السبكي ، والحنابلة شمس الدين محمد المقدسي ، وكان ذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة بدار العدل ، [ ص: 461 ] وكان سبب ذلك كثرة توقف القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز في أمور تخالف مذهب الشافعي ، وتوافق غيره من المذاهب ، فأشار الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي على السلطان بأن يولي من كل مذهب قاضي قضاة ، وكان يحب رأيه ومشورته ، فأجابه إلى ذلك ففعل كما ذكرنا ، وبعث بأخشاب ورصاص وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرسل منبرا فنصب هنالك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها وقع حريق عظيم ببلاد مصر ، واتهم النصارى ، فعاقبهم الملك الظاهر عقوبة عظيمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها جاءت الأخبار بأن سلطان التتار هولاكو هلك إلى لعنة الله وغضبه في سابع ربيع الآخر بمرض الصرع بمدينة مراغة ، ودفن بقلعة تلا ، وبنيت عليه قبة واجتمعت التتار على ولده أبغا ، فقصده الملك بركة خان ، فكسره وفرق جموعه ، ففرح الملك الظاهر بذلك فرحا شديدا ، وعزم على جمع العساكر ليأخذ بلاد العراق ، فلم يتمكن من ذلك لتفرق العساكر في الإقطاعات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها في ثاني عشر شوال سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد محمد بركة قان ، وأخذ له البيعة من الأمراء ، وأركبه ومشى الأمراء بين يديه ، وحمل والده الغاشية بنفسه ، والأمير بدر الدين بيسري الشمسي حامل الجتر ، [ ص: 462 ] والقاضي تاج الدين ابن بنت الأعز والوزير بهاء الدين بن حنا راكبان بين يديه ، وأعيان الأمراء ركبان وبقيتهم مشاة حتى شقوا القاهرة وهم كذلك ، وكان يوما مشهودا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذي القعدة ختن السلطان ولده الملك السعيد المذكور ، وختن معه جماعة من أولاد الأمراء ، وكان يوما مشهودا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية