الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب : النهي مقابل للأمر في كل حاله )

أي في كل الذي للأمر من كونه من المتن الذي يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع . . ومن كونه نوعا من الكلام وغير ذلك ( وصيغته ) ( لا تفعل . وترد ) لمعان كثيرة : أحدها : كونها ( لتحريم ) وهي حقيقة فيه فقط . نحو قوله تعالى [ ص: 338 ] { ولا تقتلوا أنفسكم } وقوله تعالى { ولا تقربوا الزنا } وقوله تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ( و ) الثاني : ل ( كراهة ) نحو قوله صلى الله عليه وسلم { لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول } ومثله المحلى وغيره بقوله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ( و ) الثالث كونها ل ( تحقير ) نحو قوله تعالى { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } ( و ) الرابع : كونها ل ( بيان العاقبة ) نحو قوله تعالى { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } ( و ) الخامس : كونها ل ( دعاء ) نحو قوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } وقوله تعالى { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } ( و ) السادس : كونها ل ( يأس ) نحو قوله تعالى { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وبعضهم مثل به للاحتقار ( و ) السابع كونها ل ( إرشاد ) نحو قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } والمراد : أن الدلالة على الأحوط ترك ذلك . قيل : وفيه نظر ، بل هي للتحريم ، والأظهر الأول . لأن الأشياء التي يسأل عنها السائل لا يعرف حين السؤال هل تؤدي إلى محذور أم لا ؟ ولا تحريم إلا بالتحقق ( و ) الثامن كونها ( لأدب ) نحو قوله تعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ولكن هذا راجع إلى الكراهة ; إذ المراد لا تتعاطوا أسباب النسيان . فإن نفس النسيان لا يدخل تحت القدرة حتى ينهى عنه . وبعضهم يعد من ذلك الخبر ، وليس للخبر مثال صحيح . ومثله بعضهم بقوله تعالى { لا يمسه إلا المطهرون } وهذا المثال إنما هو للخبر بمعنى النهي ، لا للنهي بمعنى الخبر ( و ) التاسع : كونها ل ( تهديد ) كقولك لمن تهدده : أنت لا تمتثل أمري . هكذا مثله في شرح التحرير . والذي يظهر : أن " لا " هنا نافية ، وإن لم تخرج عن معنى التهديد .

والأولى تمثيله بقول السيد لعبده - وقد أمره بفعل شيء فلم يفعله - لا تفعله ، فإن عادتك أن لا تفعله بدون المعاقبة ( و ) العاشر : كونها ل ( إباحة الترك ) كالنهي [ ص: 339 ] بعد الإيجاب على قول تقدم في أن النهي بعد الأمر للإباحة . والصحيح خلافه ( و ) الحادي عشر : كونها ل ( لالتماس ) كقولك لنظيرك : لا تفعل ، عند من يقول إن صيغة الأمر لها ثلاث صفات : أعلى ، ونظير ، وأدون . وكذلك النهي ( و ) الثاني عشر كونها ل ( لتصبر ) نحو قوله تعالى { لا تحزن إن الله معنا } ( و ) الثالث عشر : كونها ل ( إيقاع أمن ) نحو قوله تعالى { ولا تخف إنك من الآمنين } { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } ولكن قيل : إنه راجع إلى نظير ، كأنه قال : أنت لا تخاف ( و ) الرابع عشر : كونها . ل ( تسوية ) نحو قوله تعالى " { فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } ( و ) الخامس عشر : كونها ل ( تحذير ) نحو قوله تعالى { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ( فإن ) ( تجردت ) صيغة النهي عن المعاني المذكورة والقرائن ( ف ) هي ( لتحريم ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم . وبالغ الشافعي رضي الله عنه في إنكار قول من قال : إنها للكراهة ، وقيل : صيغة النهي تكون بين التحريم والكراهة . فتكون من المجمل . وقيل : تكون للقدر المشترك بين التحريم والكراهة . فتكون حقيقة في كل منهما .

وقيل : بالوقف لتعارض الأدلة ( و ) ورود صيغة النهي ( مطلقة عن شيء لعينه ) أي لعين ذلك الشيء كالكفر والظلم والكذب ونحوها من المستقبح لذاته : يقتضي فساده شرعا عند الأئمة الأربعة والظاهرية وبعض المتكلمين . قال الخطابي : هذا مذهب العلماء في قديم الدهر وحديثه ، لحديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } واستدل لذلك بأن العلماء لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي ، كاحتجاج ابن عمر رضي الله عنهما بقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } واستدلال الصحابة . رضي الله عنهم . على فساد عقود الربا بقوله صلى الله عليه وسلم { لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل } - الحديث " وعلى فساد نكاح المحرم بالنهي عنه . وقد شاع وذاع ذلك من غير نكير . فإن قيل : احتجاجهم إنما هو على التحريم لا على الفساد . فالجواب : أن احتجاجهم على التحريم [ ص: 340 ] والفساد معا . ألا ترى إلى حديث بيع الصاعين من التمر بالصاع . وقوله صلى الله عليه وسلم " { أوه عين الربا } وذلك بعد القبض . فأمر برده . وبقوله صلى الله عليه وسلم { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } والرد إذا أضيف إلى العبادات اقتضى عدم الاعتداد بها ، وإن أضيف إلى العقود اقتضى فسادها . فإن قيل : معناه ليس بمقبول ولا طاعة .

قلنا : الحديث يقتضي رد ذاته إن أمكن ، وإن لم يمكن اقتضى رد متعلقه . فإن قيل : هو من أخبار الآحاد ، والمسألة من الأصول . قيل : تقوى بالقبول . والمسألة من باب الفروع . واحتج الشافعي . رضي الله عنه . بقول النبي صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بطهور ، ولا نكاح إلا بولي ، ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } ونحو ذلك . قال : ومعلوم أنه لم يرد بذلك نفي نفس الفعل ; لأن الفعل موجود من حيث المشاهدة ، وإنما أراد نفي حكمه . فإذا وجد الفعل على الصفة المنهي عنها لم يكن له حكم .

فوجوده كعدمه . وإذا كان كذلك لم يؤثر إيجاده . وكان . الفرض الأول على عادته ، ويدل للفساد غير ما تقدم من الكتاب والسنة أيضا : الاعتبار والمناقضة .

أما الاعتبار : فلأن النهي يدل على تعلق مفسدة بالمنهي عنه ، أو بما . يلازمه ; لأن الشارع حكيم لا ينهى عن المصالح . وفي القضاء بإفسادها إعدام لها بأبلغ الطرق ولأن النهي عنها مع ربط الحكم بها يفضي إلى التناقض في الحكمة ; لأن نصبها سببا يمكن من التوسل ، والنهي يمنع من التوسل ، ولأن حكمها مقصود الآدمي ومتعلق غرضه ، فتمكينه منه حث على تعاطيه . والنهي منع من التعاطي ، ولأنه لو لم يفسد المنهي عنه لزم من نفيه لكونه مطلوب الترك بالنهي حكمه للنهي ، ومن ثبوته لكون الفرض جواز التصرف ، وصحته حكم الصحة . وذلك باطل .

أما الملازمة : فلاستحالة خلو الأحكام الشرعية عن الحكمة . وأما بطلان الثاني : فلأن اجتماعهما يؤدي إلى خلو الحكم عن الحكمة ، وهو خرق للإجماع . لأن حكمة النهي إما أن تكون راجحة على حكم الصحة أو مرجوحة أو مساوية ; ولو كان كذلك لامتنع النهي . فلم يبق إلا أن تكون راجحة على حكم الصحة . [ ص: 341 ] وفي رجحان النهي تمتنع الصحة فإن قلت : الترجيح غايته أن يناسب نفي الصحة ولا يلزم من ذلك نفي الصحة إلا بإيراد شاهد بالاعتبار . ولو ظهر كان الفساد لازما من القياس . قلنا : القضاء بالفساد لعدم الصحة ، فلا يفتقر إلى شاهد الاعتبار ، ولأن في الشرعيات منهيات باطلة ، ولا مستند لها إلا أن النهي للأصل . وأما دليل الفساد بالمناقضة : فلأن المخالفين أبطلوا النكاح في العدة ونكاح المحرم ، والمحاقلة والمزابنة والمنابذة والملامسة ، والعقد على منكوحة الأب لقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } . { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } والصلاة في المكان النجس والثوب النجس ، وحالة كشف العورة ، إلى غير ذلك ، ولا مستند إلا النهي . قالوا : لو دل الفساد لناقض التصريح بالصحة في قوله : نهيتك عن فعل كذا فإن فعلت صح . قلنا : الجواب عنه أن المنع من الفساد من التصريح بالصحة لما ذكرنا من حكمة الفساد ، ولأنه لو سلم فالتصريح بخلاف الظاهر ، ولا تناقض ، نحو : رأيت أسدا يرمي . وأيضا فإن قوله : يشبه المستدرك والمستثنى . فكأنه قال : لكنك إن فعلت صح ، أو قوله : إلا أنك إذا فعلت صح . وليس في كلام الشارع شيء من ذلك . وكذا لو كان النهي لوصف في المنهي عنه لازم له . وهو ما أشير إليه بقوله ( أو وصفه ) كالنهي عن نكاح الكافر للمسلمة وعن بيع العبد المسلم من كافر .

فإن النهي عن ذلك ( يقتضي فساده شرعا ) عندنا وعند الشافعية ومن وافقهم .

فإن ذلك يلزم منه إثبات القيام والاستيلاء والسبيل للكافر على المسلم ، فيبطل هذا الوصف . اللازم له . وعند الحنفية ومن وافقهم : أن النهي يقتضي صحة الشيء وفساد وصفه . فالمحرم عندهم وقوع الصوم في العيد لا الواقع . فالفعل حسن ; . لا أنه صوم قبيح لوقوعه في العيد . فهو عندهم طاعة يصح النذر به ، ووصف قبحه لازم للفعل لا للاسم ، ولا يلزم بالشروع . وقيل لأبي الخطاب في نذر صوم يوم العيد نهيه عليه الصلاة والسلام عن صوم يوم العيد يدل على الفساد ؟ فقال : هو [ ص: 342 ] حجتنا ; لأن النهي عما لا يكون محال ، كنهي الأعمى عن النظر ، فلو لم يصح لما نهى عنه ( وكذا ) لو كان النهي عن الشيء ( لمعنى في غيره ك ) النهي عن عقد بيع ( بعد نداء جمعة ) وكالوضوء بماء مغصوب ، يعني فإنه يقتضي فساده عند الإمام أحمد . رضي الله عنه . وأكثر أصحابه والمالكية والظاهرية والجبائية . وخالف في ذلك الأكثر ، وهو مذهب الشافعي . قال الآمدي : لا خلاف أنه لا يقتضي الفساد إلا ما نقل عن مالك وأحمد . ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات . وألزم القاضي الشافعية ببطلان البيع بالتفرقة بين والدة وولدها ( لا ) إن كان النهي ( عن غيره ) أي لمعنى في غير المنهي عنه غير عقد . وكان ذلك ( لحق آدمي ، كتلق ) للركبان ( و ) ك ( نجش ) وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها لغير المشتري ( و ) ك ( سوم ) على سوم مسلم ( و ) ك ( خطبة ) ولو لذمية على خطبة مسلم ( و ) ك ( تدليس ) مبيع ، كالتصرية ونحوها . فإن العقد يصح مع ذلك عندنا وعند الأكثر . قال ابن مفلح في أصوله : وحيث قال أصحابنا " اقتضى النهي الفساد " فمرادهم : ما لم يكن النهي لحق آدمي يمكن استدراكه . فإن كان ولا مانع . كتلقي الركبان والنجش . فإنهما يصحان على الأصح عندنا وعند الأكثر . لإثبات الشرع الخيار في التلقي ( والنهي يقتضي الفور والدوام ) عند أصحابنا والأكثر ، ويؤخذ من كونه للدوام : كونه للفور ; لأنه من لوازمه ، ولأن من نهي عن فعل بلا قرينة ففعله في أي وقت كان عد مخالفا لغة وعرفا . ولهذا لم يزل العلماء يستدلون به من غير نكير . وحكاه أبو حامد وابن برهان وأبو زيد الدبوسي إجماعا .

والفرق بينه وبين الأمر : أن الأمر له حد ينتهي إليه فيقع الامتثال فيه بالمرة . وأما الانتهاء عن المنهي عنه فلا يتحقق إلا باستيعابه في العمر فلا يتصور فيه تكرار ، بل بالاستمرار به يتحقق الكف . وقال بعضهم : إن النهي منقسم إلى الدوام كالزنا ، وإلى غيره كالحائض عن الصلاة . فكان للقدر المشترك ، دفعا للاشتراك والمجاز . ورد بأن عدم الدوام لقرينة ، هي تقييده بالحيض ، وكونه حقيقة للدوام [ ص: 343 ] أولى من المرة لدليلنا ، ولإمكان التجوز فيه عن بعضه لاستلزامه له بخلاف العكس ( و ) قول الناهي عن شيء ( لا تفعله مرة يقتضي تكرار الترك ) قدمه ابن مفلح في أصوله . فلا يسقط النهي بتركه مرة . وعند القاضي والأكثر يسقط بمرة ، وهو المعروف عند الشافعية . وقدمه في جمع الجوامع ، حتى قال شارحه ابن العراقي عن القول بأنه يقتضي التكرار : غريب لم نره لغير ابن السبكي . وقطع به البرماوي في شرح منظومته . والظاهر أنهما لم يطلعا على كلام الحنابلة في ذلك ( ويكون ) النهي ( عن ) شيء ( واحد ) فقط ، وهو كثير ( و ) عن ( متعدد ) أي شيئين فأكثر ( جمعا ) أي عن الهيئة الاجتماعية . فيكون له فعل أيها شاء على انفراده كالجمع بين الأختين ، وبين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ( وفرقا ) وهو النهي عن الافتراق دون الجمع . كالنهي عن . الاقتصار على أحد شيئين . نحو قوله صلى الله عليه وسلم { لا تمش في نعل واحدة } فالمنهي عنه هنا التفريق بين حالتي الرجلين ، لا عن لبسهما معا ، ولا عن تحفيفهما معا . ولذلك قال " { لينعلهما جميعا أو ليحفهما جميعا } ( و ) يكون النهي أيضا عن متعدد ( جميعا ) ومن أمثلة النهي لهذه المسألة وغيرها : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . فإنك إن جزمت الفعلين كان كل منهما متعلق النهي . فيكون النهي عنهما جميعا ، وإن نصبت الثاني مع جزم الأول كان متعلق النهي الجمع بينهما ، وكل واحد منهما غير منهي عنه بانفراد ، وإن جزمت الأول ورفعت الثاني كان الأول متعلق النهي فقط في حالة ملابسة الثاني .

ولما فرغ من الكلام على الأمر والنهي اللذين حقهما التقديم لتعلقهما بنفس الخطاب الشرعي . شرع في الكلام على العموم والخصوص المتعلقين بمدلول الخطاب باعتبار المخاطب به فقال :

التالي السابق


الخدمات العلمية