الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      [17 ] مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون

                                                                                                                                                                                                                                      ولما جاء بحقيقة صفتهم ، عقبها بضرب المثل -زيادة في الكشف ، وتتميما للبيان- فقال تعالى "مثلهم" أي : مثالهم في نفاقهم ، وحالهم فيه "كمثل الذي استوقد" أي : أوقد "نارا" في ظلمة - والتنكير للتعظيم - : "فلما أضاءت" أي : أنارت النار [ ص: 54 ] "ما حوله" فأبصر ، واستدفأ ، وأمن مما يخافه "ذهب الله بنورهم" أي : أطفأ الله نارهم - التي هي مدار نورهم- فبقوا في ظلمة وخوف- وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي كقوله وخضتم كالذي خاضوا "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" ما حولهم - متحيرين عن الطريق ، خائفين - فكذلك هؤلاء استضاؤوا قليلا بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، حيث أمنوا على أنفسهم وما يتبعها . ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة –ظلمة النفاق- التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمد ، ومحصوله : أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدة حياتهم القليلة ، ثم قطعه الله تعالى بالموت .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل - عن كثير من السلف - تفسير آخر ، وهو : تمثيل إيمانهم أولا ، ثم كفرهم ثانيا . فيكون إذهاب النور في الدنيا ، كما قال تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا الآية ، فلما آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم -كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا - ثم لما كفروا ، ذهب الله بنورهم : انتزعه - كما ذهب بضوء هذه النار - وعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله . فإنهم - لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى - مثل هداهم - الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد - والضلالة - التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم - بذهاب الله بنورهم ، وتركه إياهم في الظلمات .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري في الكشاف : ولضرب العرب الأمثال ، واستحضار العلماء المثل [ ص: 55 ] والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ، ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق ، والمتوهم في معرض المتيقن ، والغائب كأنه مشاهد - وفيه تبكيت للخصم الألد ، وقمع لسورة الجامح الأبي .

                                                                                                                                                                                                                                      ولأمر ما ، أكثر الله - في كتابه المبين ، وفي سائر كتبه - أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلام الأنبياء والحكماء ، قال الله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون

                                                                                                                                                                                                                                      و(المثل) : في أصل كلامهم بمعنى : المثل وهو النظير . يقال : مثل ، ومثل ، ومثيل - كشبه وشبه وشبيه - ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده : مثل . ولم يضربوا مثلا ، ولا رأوه أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول والقبول ، إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه . ومن ثم حوفظ عليه ، وحمي من التغيير .

                                                                                                                                                                                                                                      فإنه - لو غير - لربما انتفت الدلالة على تلك الغرابة . وقيل : إن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة . فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به . فإن وقع تغيير ، لم يكن مثلا ، بل مأخوذا منه ، وإشارة إليه - كما في قولك : بالصيف ضيعت اللبن بالتذكير .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 56 ] وقال بعضهم : قد استعير المثل للحال ، أو القصة ، أو الصفة - إذا كان لها شأن ، وفيها غرابة - كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا . وكذلك قوله : مثل الجنة التي وعد المتقون أي : - فيما قصصنا عليك من العجائب - قصة الجنة العجيبة الشأن ، ثم أخذ في بيان عجائبها : ولله المثل الأعلى أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة مثلهم في التوراة أي : صفتهم وشأنهم المتعجب منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا : فلان مثلة في الخير والشر ، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية