الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 4819 ] سورة "الأنبياء "

                                                          تمهيد:

                                                          هي جديرة باسمها؛ لأن فيها قصصا من أخبار النبيين؛ وهو غير مكرر؛ مع ما ذكر في غيرها من القصص؛ فكل قصة لمست جزءا من القصة هو عبرة في موضعها؛ غير مكرر مع غيره؛ وقد نبهنا إلى ذلك من قبل؛ وضربنا المثل بقصة بدء خلق الإنسان؛ والمفارقات.

                                                          وسورة "الأنبياء "؛ سورة مكية؛ وآياتها اثنتا عشرة آية ومائة.

                                                          وقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر الساعة؛ وقربها؛ وما وراءها من حساب على ما قدمت أيديهم: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ؛ ويأخذون الحياة لعبا ولهوا؛ حتى ما يكون تذكيرا باليوم الآخر؛ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ؛ وقالوا لكل رسول جاءهم: هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ؛ واتهموا كل رسول يرسل إليهم بأن كلامه أضغاث أحلام؛ وأن كلامه افتراء افتراه على الله (تعالى): بل هو شاعر فليأتنا بآية ؛ ويذكر العبرة في حال من سبقوا: ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ؛ ويخاطب نبيه فيقول: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين

                                                          ولقد كفر أقوامهم؛ فصدق الله (تعالى) وعده لأنبيائه؛ فأنجاهم وأهلك الكافرين؛ لأنهم أسرفوا في الضلال؛ وبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مذكور في الكتب قبله؛ وأن الكتاب [ ص: 4820 ] الذي أنزله الله إليكم فيه ذكركم؛ ورفعتكم؛ وقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - أنه أهلك الذين من قبلهم لضلالهم: وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ؛ وقد أحسوا الهلاك النازل بهم عند نزوله؛ فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين

                                                          وقد بين - سبحانه وتعالى - خلق السماوات والأرض؛ ودلالتها على وحدانية الخالق؛ وأنه مالك السماوات والأرض؛ وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون

                                                          ولقد جاء إثبات الوحدانية بدليل يجمع بين البلاغة وأعلى درجات المنطق؛ فقال (تعالى): لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ؛ ولقد تحداهم - سبحانه - أن يأتوا بما يدل على ألوهية غيره - سبحانه -؛ فقال: أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون

                                                          وقد أشار - سبحانه - من بعد إلى أنه قد أرسل رسلا من قبلكم؛ وكانت دعوتهم التوحيد الخالص؛ ونفى - سبحانه - عن ذاته العلية اتخاذ الولد؛ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون

                                                          ونفى - سبحانه - أن يقول أحد ممن ادعوا أنهم أبناء الله [هذا القول]؛ ومن يقل بذلك يجزيه جهنم؛ وكذلك يجزي الله الظالمين.

                                                          وقد أتى - سبحانه - بقضية كونية لم يصل إليها العلم إلا في العصور المتأخرة؛ وهو أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا؛ فقال: أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون [ ص: 4821 ] وبين بعد ذلك ما في الأرض من جبال راسيات؛ ومن مهاد؛ ومن فجاج وسبل؛ وجعل السماء سقفا محفوظا؛ وهم عن آياتها معرضون؛ وبين - سبحانه - أنه خلق الليل والنهار والشمس والقمر؛ كل في فلك يسبحون؛ وأن نهاية النفوس جميعا إلى الموت: كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ؛ ثم أشار - سبحانه - إلى استهزاء المشركين؛ يقولون عند رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -: أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ؛ وقد أشار - سبحانه - إلى ما في الإنسان في طبيعته من الاستعجال؛ ويستعجلون العذاب؛ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؛ ثم بين - سبحانه - حال الكافرين: لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون

                                                          ولقد ذكر الله (تعالى) لتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يفعله السابقون من السخرية برسلهم؛ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون

                                                          ثم نبه - سبحانه - إلى ما أنعم به عليهم من نعم؛ وهي دائمة؛ قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون ؛ وليس لهم من يمنعهم من الله؛ وأنه - سبحانه - متع هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم [العمر]؛ وظنوا أنه لا حساب؛ وقد وجدوا عقاب الله (تعالى) لمشركي مكة؛ بالحرب التي كانت تنقص عليهم الأرض من أطرافها.

                                                          ولقد أشار - سبحانه - إلى موسى وهارون؛ وقد آتاهما ما أضاء الحق؛ وذكر المتقين؛ وما كان فرقانا بين الهدى؛ والضلال؛ وهذا ذكر مبارك؛ وهو القرآن؛ أفأنتم - معشر المشركين - له منكرون.

                                                          ذكر بعد ذلك شيئا من مجاوبة إبراهيم لعباد الأوثان؛ قائلا لهم: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن [ ص: 4822 ] أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ؛ وحطم أصنامهم؛ ووضع الفأس التي حطمها بها في عنق كبيرهم؛ ثم جاؤوا وتحروا؛ فوقعت الظنة على إبراهيم؛ فأرادوا أن يحرقوه بالنار؛ فجعلها الله (تعالى) بردا وسلاما على إبراهيم؛ وهذا القدر من قصة إبراهيم لم يذكر في أي سورة أخرى؛ مما يدل على أنه لا تكرار في قصص القرآن؛ وإن بدا ذلك بظاهر الأمر لمن لم يفحص مرامي القصص؛ وموضع العبرة فيه؛ وقد جرت بين الشاب وبينهم مجادلات في عبادة الأوثان؛ حتى انتهى إلى قوله لهم: أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون

                                                          ونجى الله من كيدهم إبراهيم؛ كما نجى الله (تعالى) لوطا؛ وذكر - سبحانه - بعد ذلك ما وهبه له؛ من إسحاق؛ ويعقوب نافلة؛ وكلا جعله الله من الصالحين؛ وجعلهم أئمة يهدون بأمره؛ ويقول - سبحانه -: وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ؛ ثم ذكر نوحا: إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين

                                                          وذكر - سبحانه - داود وسليمان؛ وقضايا سليمان؛ وما فهمه - سبحانه وتعالى - من الحكم فيها؛ وما علمه لداود من صنعة لبوس لكم؛ لتحصنكم من بأسكم؛ فهل أنتم شاكرون؛ وما مكن - سبحانه وتعالى - لسليمان؛ وقال: ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين

                                                          وقص - سبحانه - قصة نبي الله (تعالى) أيوب؛ وما أصابه من ضر؛ وصبره لما أصابه؛ إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ؛ وقد استجاب له [ ص: 4823 ] الله (تعالى)؛ وكشف ما به من ضر؛ وقال - سبحانه -: وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين

                                                          وأشار - سبحانه وتعالى - إلى إسماعيل؛ وإدريس؛ وذي الكفل؛ وكل من الصابرين؛ وقال - سبحانه -: وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ؛ ثم ذكر - سبحانه - قصة ذي النون؛ فقال: وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين

                                                          وذكر خبر زكريا؛ ونداءه ربه: رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ؛ وقد استجاب الله (تعالى) له؛ ووهب له يحيى.

                                                          ثم ذكر - سبحانه وتعالى - خبر مريم؛ فقال: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين

                                                          ثم أشار - سبحانه - إلى أن الناس جميعا أمة واحدة؛ دعيت إلى دين واحد؛ فقال: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون

                                                          وأشار - سبحانه - إلى أنه مع هذه الوحدة الجامعة تفرقوا حول الأنبياء الذين دعوا إلى عبادة الله (تعالى): وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون

                                                          وقد أشار - سبحانه وتعالى - إلى أحوال يأجوج ومأجوج؛ وهم من كل حدب ينسلون؛ وبين - سبحانه - أن الساعة آتية لا ريب فيها؛ وقد اقتربت؛ لأن كل آت قريب؛ وأشار إلى أحوال الناس عند هذه الساعة؛ وبين أنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم؛ وبين لنا أن الذين سبقت لهم من الله الحسنى أولئك عن جهنم مبعدون؛ لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون

                                                          وذكر - سبحانه وتعالى - ما يكون للكون يوم القيامة؛ وما كتبه الله في كتبه السماوية؛ أن الأرض يرثها الصالحون؛ وأمر نبيه أن يقول للمشركين؛ الذين كفروا [ ص: 4824 ] برسالته: قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون

                                                          وبهذا تنتهي السورة الشريفة؛ وفيها كما يرى القارئ من هذا العرض أنها تشتمل على إشارات من قصص النبيين؛ وصلبها الدعوة إلى التوحيد؛ وما لقيه النبيون في سبيل هذه الدعوة التي هي الحق؛ وضل من يعاندها.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية