الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير

                                                                                                                                                                                                فاطر السماوات قرئ بالرفع والجر، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم، أو خبر مبتدأ محذوف، والجر على: فحكمه إلى الله فاطر السماوات، و "ذلكم" إلى "أنيب" اعتراض بين الصفة والموصوف جعل لكم خلق لكم من أنفسكم من جنسكم من الناس أزواجا ومن الأنعام أي: خلق من الأنعام أزواجا. ومعناه: وخلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا "يذرؤكم" يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم. والذر، والذرو، والذرء: أخوات. "فيه" في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في "يذرؤكم" يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من [ ص: 397 ] الأحكام ذات العلتين، فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير; ألا تراك تقول: للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: ولكم في القصاص حياة [البقرة: 179] قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية; لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون: إيفاعه وبلوغه. وفى حديث رقيقة بنت صيفى في سقيا عبد المطلب: "ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته" [ ص: 398 ] والقصد إلى طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شيء، وبين قوله: ليس كمثله شيء إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد: وهو نفى المماثلة عن ذاته، ونحوه قوله عز وجل: بل يداه مبسوطتان [المائدة: 64] فإن معناه: بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط لها; لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر، حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له، ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد، كما كررها من قال [من الرجز]:


                                                                                                                                                                                                وصاليات ككما يؤثفين



                                                                                                                                                                                                [ ص: 399 ] ومن قال [من الرجز]:


                                                                                                                                                                                                فأصبحت مثل كعصف مأكول



                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية