الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 252 ] سورة التحريم [ فيها ثلاث آيات ]

                                                                                                                                                                                                              الآية الأولى قوله تعالى : { يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } .

                                                                                                                                                                                                              فيها خمس مسائل : المسألة الأولى في سبب نزولها : اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال : الأول : أن سبب نزولها { الموهوبة التي جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني وهبت لك نفسي . فلم يقبلها } رواه عكرمة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنها نزلت في شأن مارية أم إبراهيم ، خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة ، وقد خرجت لزيارة أبيها ، فلما عادت وعلمت عتبت عليه ، فحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه إرضاء لحفصة ، وأمرها ألا تخبر أحدا من نسائه ، فأخبرت بذلك عائشة لمصافاة كانت بينهما ; فطلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ، واعتزل نساءه شهرا ، وكان جعل على نفسه أن يحرمهن شهرا ; فأنزل الله هذه الآية ، وراجع حفصة ، واستحل مارية ، وعاد إلى نسائه ; قاله الحسن ، وقتادة ، والشعبي ، وجماعة .

                                                                                                                                                                                                              واختلفوا هل حرم النبي صلى الله عليه وسلم مارية بيمين على قولين : فقال قتادة والحسن ، والشعبي : حرمها بيمين . وقال غيرهم : إنه حرمها بغير يمين ، ويروى عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : ثبت في الصحيح واللفظ للجعفي عن عبيد بن عمير ، عن عائشة قالت { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها [ ص: 253 ] فتواصيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير ، إني أجد منك ريح مغافير . قال : لا . ولكني شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له . وقد حلفت لا تخبري أحدا يبتغي مرضاة أزواجه } .

                                                                                                                                                                                                              وفي صحيح مسلم أنه شربه عند حفصة ، وذكر نحوا من القصة ، وكذلك روى أشهب عن مالك . والأكثر في الصحيح أنه عند زينب ، وأن اللتين تظاهرتا عليه عائشة وحفصة .

                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة . وروى أسباط عن السدي أنه شربه عند أم سلمة ، وكله جهل وتسور بغير علم . المسألة الثانية أما من روى أن الآية نزلت في الموهوبة فهو ضعيف في السند ، وضعيف في المعنى ; أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها ; لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه ، وإنما حقيقته التحريم بعد التحليل .

                                                                                                                                                                                                              وأما من روى أنه حرم مارية فهو أمثل في السند ، وأقرب إلى المعنى ; لكنه لم يدون في صحيح ، ولا عدل ناقله ، كما أنه روي مرسلا .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى ابن وهب ، عن مالك عن زيد بن أسلم ; قال { : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ولده إبراهيم ، فقال : أنت علي حرام ; والله لا أتيتك . فأنزل الله في ذلك : { يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } } .

                                                                                                                                                                                                              وروى مثله ابن القاسم عنه .

                                                                                                                                                                                                              وروى أشهب عن مالك ، قال : راجعت عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار في شيء ، فاقشعر من ذلك . وقال : ما كان النساء هكذا . قالت : بلى ، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه . فاحتزم ثوبه ، فخرج إلى حفصة ، فقال لها : أتراجعين [ ص: 254 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت . فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال : رغم أنف حفصة .

                                                                                                                                                                                                              وإنما الصحيح أنه كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، وجرى ما جرى ، فحلف ألا يشربه ، وأسر ذلك ، ونزلت الآية في الجميع .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية