الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 143 ] فتوى فيمن يعظم المشايخ

ويستغيث بهم ويزور قبورهم [ ص: 144 ] [ ص: 145 ] ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قوم يعظمون المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرعون إليهم، ويزورون قبورهم ويقبلونها ويتبركون بترابها، ويوقدون المصابيح طول الليل، ويتخذون لها مواسم يقدمون عليها من البعد يسمونها ليلة المحيا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور، ويصلون عندها.

فهل يحل لهؤلاء القوم هذا الفعل أم يحرم عليهم أم يكره؟ وهل يجوز للمشايخ تقريرهم على ذلك أم يجب عليهم منعهم من ذلك وزجرهم عنه؟ وما يجب على المشايخ من تعليم المريدين وما يوصونهم به؟ وهل يجوز لهم أن يكتبوا لهم إجازات بالمشيخة على بلاد أخرى؟ وهل يجوز تقريرهم على أخذ الحيات والنار وغير ذلك أم لا؟ وماذا يجب على أئمة مساجد يحضرون سماعهم ويوافقونهم على هذه الأشياء؟ وما يجب على ولي الأمر في أمرهم هذا؟ أفتونا مأجورين.

أجاب الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام بقية السلف طراز الخلف بحر العلوم ناصر الشريعة قامع البدعة تاج العارفين إمام المحققين العارف الرباني الناسك النوراني علامة الوقت مفتي الفرق تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الحنبلي -رضي الله عنه وأرضاه، ورزقه ما رزق أولياءه-، قال:

الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات، ويطلب منه قضاء الحوائج، [ ص: 146 ] فيقول: يا سيدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجوارك؟ أو يقول عند هجوم العدو عليه: يا سيدي فلان! يستوحيه ويستغيث به؟ أو يقول ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته-: فإن هذا ضال جاهل مشرك عاص لله باتفاق المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يدعى ولا يطلب منه شيء، سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك.

ولكن إذا كان حيا حاضرا، وطلب منه ما يقدر عليه من الدعاء ونحو ذلك، جاز، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه في حياته، وكما يطلب منه الخير يوم القيامة. وهذا هو التوسل به والاستغاثة التي جاءت به الشريعة، كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك: أن الناس لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس، فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، قال: فيسقون. فكان توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته هو توسلهم بدعائه وشفاعته، فلما مات توسلوا بدعاء عمه العباس وشفاعته، لقربه منه، ولم يتوسلوا حينئذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا استغاثوا به، ولا ذهبوا إلى قبره يدعون عنده. فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد سد الذريعة في هذا الباب، حتى قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" . وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" . وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا . وقال: "إن من كان قبلكم كانوا [ ص: 147 ] يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" .

فلهذا قال العلماء -رضي الله عنهم-: إنه يحرم بناء المساجد على القبور. فإذا كان قبور الأنبياء والصالحين لم تتخذ مساجد، والصلاة عندها لله تعالى قد نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا تكون ذريعة إلى الشرك، فكيف إذا كان صاحب القبر يدعى ويسأل ويقسم على الله به ويسجد لقبره أو يتمسح به؟ فإن هذا شرك صريح.

وقد قال الله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا .

وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والنبيين كالمسيح وعزير، فقال الله تعالى: إن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي، ويخافوني كما تخافوني.

وقد قال تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون [ ص: 148 ] الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون . فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، وهذا إنما كان بدعائهم من دون الله، لا بأنهم اعتقدوا أنهم شاركوه في خلق السماوات والأرض، فإن هذا لم يقله أحد.

ولهذا قال عن النصارى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون . فبين أن النصارى مشركون من حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، ولم يقل أحد من النصارى أن الأحبار والرهبان شاركت الله في خلق السماوات والأرض. فإذا كان الداعي المستغيث بمن مات من الأنبياء مشركا فكيف من دعا ميتا غير الأنبياء واستغاث به؟!

ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة بدعية، وزيارة شرعية. فالزيارة الشرعية مقصودها الدعاء للميت كما يصلى على جنازته، فيقال فيها : "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية في الدنيا والآخرة، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فهذا من جنس الصلاة على الميت.

التالي السابق


الخدمات العلمية