الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 55 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ( 24 ) )

قال أبو جعفر : يقول ، تعالى ذكره : إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها ، مع ما قد وكل بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت ، كمثل ماء أنزلناه من السماء ، يقول : كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض ( فاختلط به نبات الأرض ) ، يقول : فنبت بذلك المطر أنواع من النبات ، مختلط بعضها ببعض ، كما :

17598 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قوله : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) ، قال : اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس ، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار ، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي .

وقوله : ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) يعني : ظهر حسنها وبهاؤها ( وازينت ) ، يقول : وتزينت ( وظن أهلها ) ، يعني : أهل الأرض [ ص: 56 ] ( أنهم قادرون عليها ) ، يعني : على ما أنبتت .

وخرج الخبر عن " الأرض " والمعنى للنبات ، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عني به .

وقوله : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ) ، يقول : جاء الأرض " أمرنا " يعني : قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا وإما نهارا ( فجعلناها ) ، يقول : فجعلنا ما عليها ( حصيدا ) يعني : مقطوعة مقلوعة من أصولها .

وإنما هي " محصودة " صرفت إلى " حصيد " .

( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول : كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس .

وأصله : من " غني فلان بمكان كذا ، يغنى به " ، إذا أقام به ، كما قال النابغة الذبياني :


غنيت بذلك إذ هم لك جيرة منها بعطف رسالة وتودد



يقول : فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها ، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها ، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس ، كأن لم تكن قبل ذلك نباتا على ظهرها .

يقول الله جل ثناؤها : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ، يقول : كما [ ص: 57 ] بينا لكم أيها الناس مثل الدنيا ، وعرفناكم حكمها وأمرها ، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ونظر .

وخص به أهل الفكر ، لأنهم أهل التمييز بين الأمور ، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشبه في الصدور .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

17599 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) ، الآية ، أي : والله ، لئن تشبث بالدنيا وحدب عليها ، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه .

17600 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : ( وازينت ) ، قال : أنبتت وحسنت .

17601 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية : ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها ) ، قال : قد قرأتها ، وليست في المصحف . فقال عباس بن عبد الله بن العباس : هكذا يقرؤها ابن عباس . فأرسلوا إلى ابن عباس فقال : هكذا أقرأني أبي بن كعب . [ ص: 58 ]

17602 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول : كأن لم تعش ، كأن لم تنعم .

17603 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : في قراءة أبي : ( كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون )

واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( وازينت ) .

فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق : ( وازينت ) بمعنى : وتزينت ، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما ، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته ، إذ كانت التاء قد سكنت ، والساكن لا يبتدأ به .

وحكي عن أبي العالية وأبي رجاء والأعرج وجماعة أخر غيرهم ، أنهم قرءوا ذلك : ( وأزينت ) على مثال " أفعلت " . [ ص: 59 ]

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك : ( وازينت ) لإجماع الحجة من القراء عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية