الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  معلومات الكتاب

                                                                  موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

                                                                  القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

                                                                  بيان الحد الذي يباح فيه الجاه :

                                                                  اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا ، ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ، ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها أي: القدرة على التصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ، فحكم الجاه حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا ، وينقطع بالموت ، والدنيا مزرعة الآخرة ، فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة ، فحب الجاه والمال لأجل التوسل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم ، وحبهما لأعيانهما فيما [ ص: 229 ] يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ، ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية وما لم يتوصل إلى اكتسابه بكذب وخداع وارتكاب محظور ، وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة ، فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين ، وهو حرام .

                                                                  والقول الفصل في طلب المنزلة والجاه في قلوب الناس أن يقال : يطلب ذلك على ثلاثة أوجه : وجهان مباحان ووجه محظور :

                                                                  أما الوجه المحظور : فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة هو منفك عنها مثل العلم والورع والنسب ، فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع ، وهو لا يكون كذلك فهذا حرام ; لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة .

                                                                  وأما أحد المباحين : فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول " يوسف " صلى الله عليه وسلم في ما أخبر عنه الرب تعالى : ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) [ يوسف : 55 ] فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما ، وكان محتاجا إليه ، وكان صادقا فيه .

                                                                  والثاني : أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه حتى لا يعلم فلا تزول منزلته به ، فهذا أيضا مباح ; لأن حفظ الستر على القبائح جائز ، ولا يجوز هتك الستر ، كالذي يخفي عمن يريد استئجاره أنه يشرب الخمر ، ولا يلقي إليه أنه ورع فإن قوله : إني ورع تلبيس وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع ، بل يمنع العلم بالشرب .

                                                                  ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده ، فإن ذلك رياء ، وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله ، وهو مراء بما يفعله فكيف يكون مخلصا ؟ فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية ، وذلك يجري مجرى اكتساب المال بالحرام من غير فرق ، وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع ، فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية