الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  معلومات الكتاب

                                                                  موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

                                                                  القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

                                                                  [ ص: 233 ] بيان حقيقة الرياء وجوامع ما يراءى به :

                                                                  اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير ; والمراءى به كثير ويجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس ، وهو البدن ، والزي ، والقول ، والعمل ، والأتباع والأشياء الخارجة .

                                                                  فأما الرياء في الدين بالبدن فكإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين غلبة خوف الآخرة ،0 وكتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر ، ومثله خفض الصوت وإغارة العينين ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم أو متوقر للدين أو ضعيف القوة من الجوع ، وعن هذا روي " إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه " لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء .

                                                                  وأما الرياء بالهيئة والزي فمثل تشعيث الشعر وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ، ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام ، كل ذلك يرائي به ليظهر أنه متبع للسنة ومقتد بالصالحين ، ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبها بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن ، ومنه التقنع فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ، ومنه الطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم .

                                                                  والمراءون بالزي على طبقات كل طبقة منهم يرى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليه الانتقال إلى ما دونه وإلى ما فوقه وإن كان مباحا ، بل هو عنده بمنزلة الذبح وذلك لخوفه أن يقول الناس : " قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريقة ورغب في الدنيا " .

                                                                  وأما الرياء بالقول فرياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لإظهار شدة العناية بأحوال الصالحين ، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق ، وإظهار الغضب للمنكرات ، وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي ، وتضعيف الصوت في الكلام والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه ، والمجادلة على قصد إفحام الخصم .

                                                                  وأما الرياء بالعمل فكمراءاة المصلي بطول القيام وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات .

                                                                  وأما المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين كالذي يتكلف أن يستزير عالما من العلماء ليقال : " إن فلانا قد زار فلانا ، أو عابدا من العباد ليقال : إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه ، أو أميرا من الأمراء ليقال : إنهم يتبركون به ، وكالذي يكثر ذكر الشيوخ وطواف البلاد ليتباهى عند خصمه .

                                                                  فهذه مجامع ما يرائي به المراءون ، وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد [ ص: 234 ] لاعتقاده أنه نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر الناس جهال .

                                                                  ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته ، بل يلتمس مع ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد ، ومنهم من يريد انتشار الصيت ، ومنهم من يريد الاشتهار عند الأمراء لتقبل شفاعته فيقوم له جاه عند العامة ، ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو كان من الحرام ، وهؤلاء شر طبقات المرائين .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية