الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( 99 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ؛ ذكر لنبيه : ( ولو شاء ) ، يا محمد ( ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) ، بك ، فصدقوك أنك لي رسول ، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودية له ، حق ، ولكن لا يشاء ذلك ، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك ، ولا يتبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور ، إلا من سبقت له السعادة في الكتاب الأول قبل أن تخلق السماوات والأرض وما فيهن ، وهؤلاء الذين عجبوا من صدق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ، ممن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

17909 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني [ ص: 212 ] معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) ، ( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) ، [ سورة يونس : 100 ] ، ونحو هذا في القرآن ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول .

فإن قال قائل : فما وجه قوله : ( لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) ، ف " الكل " يدل على " الجميع " و " الجميع " على " الكل " فما وجه تكرار ذلك ، وكل واحدة منهما تغني عن الأخرى ؟

قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك :

فقال بعض نحويي أهل البصرة : جاء بقوله " جميعا " في هذا الموضع توكيدا ، كما قال : ( لا تتخذوا إلهين اثنين ) ، [ سورة النحل : 51 ] ففي قوله : " إلهين " دليل على " الاثنين " .

وقال غيره : جاء بقوله " جميعا " بعد " كلهم " لأن " جميعا " لا تقع إلا توكيدا ، و " كلهم " يقع توكيدا واسما ، فلذلك جاء ب " جميعا " بعد " كلهم " . قال : ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد ، لجاز هاهنا . قال : وكذلك : ( إلهين اثنين ) ، العدد كله يفسر به ، فيقال : " رأيت قوما أربعة " فلما جاء " باثنين " ، وقد اكتفى بالعدد منه ، لأنهم يقولون : " عندي درهم ودرهمان " ، فيكفي من قولهم : " عندي درهم واحد ، ودرهمان اثنان " ، فإذا قالوا : " دراهم " قالوا : " ثلاثة " لأن الجمع يلتبس ، و " الواحد " و " الاثنان " لا يلتبسان ، [ ص: 213 ] ثم بني الواحد والتثنية على بناء [ ما ] في الجميع ، لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحد واحد ، لأن " درهما " يدل على الجنس الذي هو منه ، و " واحد " يدل على كل الأجناس . وكذلك " اثنان " يدلان على كل الأجناس ، و " درهمان " يدلان على أنفسهما ، فلذلك جاء بالأعداد ، لأنه الأصل .

وقوله : ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ، يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنه لن يصدقك يا محمد ولن يتبعك ويقر بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدقك ، لا بإكراهك إياه ، ولا بحرصك على ذلك ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) لك ، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك ؟ يقول له جل ثناؤه : فاصدع بما تؤمر ، وأعرض عن المشركين الذين حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون .

التالي السابق


الخدمات العلمية