الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم دخلت سنة تسع وخمسين وسبعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام بالبلاد المصرية ، والشامية ، والحرمين الشريفين ، وما يتبع ذلك - الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي ، وقد قوي جانبه وحاشيته بموت الأمير شيخون ، كما ذكرنا في سادس عشرين ذي القعدة من السنة الماضية ، وصار إليه من ميراثه من زهرة الحياة شيء كثير من القناطير المقنطرة من الذهب ، والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام ، والحرث ، وكذلك من المماليك ، والأسلحة ، والعدة ، والبرك ، والمتاجر ما يشق حصره ، ويتعذر إحصاؤه هاهنا ، وليس في الديار المصرية فيما بلغنا إلى الآن نائب ولا وزير ، والقضاة بها هم المذكورون في التي قبلها ، وأما دمشق فنائبها وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها ، سوى الحنفي ، فإنه قاضي القضاة شرف الدين الكفري عوضا عن نجم الدين الطرسوسي; توفي في شعبان من السنة الماضية . ونائب حلب سيف الدين طاز ، وطرابلس منجك ، وحماة أسندمر العمري ، وصفد شهاب الدين بن صبح ، وبحمص صلاح الدين [ ص: 582 ] خليل بن خاص ترك ، وببعلبك ناصر الدين بن الأقوش .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم الاثنين رابع عشر المحرم خرجت أربعة آلاف مع أربعة مقدمين إلى ناحية حلب نصرة لجيش حلب على مسك طاز إن امتنع من السلطنة كما أمر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان يوم الحادي والعشرين من المحرم نادى المنادي من جهة نائب السلطنة أن يركب من بقي من الجند في الحديد ، ويوافوه إلى سوق الخيل ، فركب معهم قاصدا ناحية ثنية العقاب ليمنع الأمير طاز من دخول البلد; لما تحقق مجيئه في جيشه قاصدا إلى الديار المصرية ، فانزعج الناس لذلك ، وأخليت دار السعادة من الحواصل والحريم إلى القلعة ، وتحصن كثير من الأمراء بدورهم داخل البلد ، وأغلق باب النصر ، فاستوحش الناس من ذلك بعض الشيء ، ثم غلقت أبواب البلد كلها إلا بابي الفراديس ، والفرج ، وباب الجابية أيضا; لأجل دخول الحجاج .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودخل المحمل صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم ، ولم يشعر به كثير من الناس; لشغلهم بما هم فيه من أمر طاز ، وأمر العشير بحوران ، وجاء الخبر بمسك الأمير سيف الدين طيدمر الحاجب الكبير بأرض حوران ، وسجنه بقلعة صرخد ، وجاء سيفه صحبة الأمير جمال الدين الحاجب ، فذهب به إلى الوطاق عند الثنية ، وقد وصل طاز بجنوده إلى باب القطيفة ، وتلاقى شاليشه بشاليش [ ص: 583 ] نائب الشام ، ولم يكن منهم قتال ، ولله الحمد . ثم تراسل هو والنائب في الصلح على أن يسلم طاز نفسه ، ويركب في عشرة سروج إلى السلطان ، وينسلخ مما هو فيه ، ويكاتب فيه النائب ، ويتلطفوا بأمره عند السلطان ، وبكل ما يقدر عليه ، فأجاب إلى ذلك ، وأرسل يطلب من يشهده على وصيته ، فأرسل إليه نائب السلطنة القاضي شهاب الدين قاضي العسكر ، فذهب إليه ، فأوصى لولده ، وأم ولده ، ولوالده نفسه ، وجعل الناظر على وصيته الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب السلطنة ، وللأمير صرغتمش ، ورجع النائب من الثنية عشية يوم السبت بين العشاءين الرابع والعشرين منه ، وتضاعفت الأدعية له ، وفرح الناس بذلك فرحا شديدا ، ودعوا إلى الأمير طاز بسبب إجابته إلى السمع والطاعة ، وعدم مقاتلته مع كثرة من كان معه من الجيوش ، وقوة من كان يحرضه على ذلك من إخوته وذويه ، وقد اجتمعت بنائب السلطنة الأمير علاء الدين أمير علي المارداني ، فأخبرني بملخص ما وقع منذ خرج إلى أن رجع ، ومضمون كلامه أن الله لطف بالمسلمين لطفا عظيما; إذ لم يقع بينهم قتال ، فإنه قال : لما وصل طاز إلى القطيفة - وقد نزلنا نحن بالقرب من خان لاجين - أرسلت إليه مملوكا من مماليكي أقول له : إن المرسوم الشريف قد ورد بذهابك إلى الديار المصرية في عشرة سروج فقط ، فإذا جئت هكذا فأهلا وسهلا ، وإن لم تفعل فأنت أصل الفتنة . وركبت ليلة الجمعة طول الليل في الجيش وهو ملبس ، فرجع مملوكي ومعه مملوكه سريعا يقول : إنه يسأل أن يدخل بطلبه كما خرج بطلبه من مصر ، فقلت : لا سبيل إلى ذلك إلا في عشرة سروج كما رسم السلطان . فرجع ، [ ص: 584 ] وجاءني الأمير الذي جاء من مصر بطلبه ، فقال : إنه يطلب منك أن يدخل في مماليكه ، فإذا جاوز دمشق إلى الكسوة نزل جيشه هناك ، وركب هو في عشرة سروج كما رسم ، فقلت : لا سبيل إلى أن يدخل دمشق ، ويتجاوز بطلبه أصلا ، وإن كان عنده خيل ، ورجال ، وعدة ، فعندي أضعاف ذلك ، فقال لي الأمير : يا خوند ، لا تكون تنشئ فتنة ، فقلت : لا يقع إلا ما تسمع . فرجع ، فما هو إلا أن ساق مقدار رمية سهم ، وجاء بعض الجواسيس الذين لنا عندهم فقال : ياخوند ، ها قد وصل جيش حماة ، وطرابلس ، ومن معهم من جيش دمشق الذين كانوا قد خرجوا بسببه ، وقد اتفقوا هم وهو . قال : فحينئذ ركبت في الجيش ، وأرسلت طليعتين أمامي ، وقلت : تراءوا للجيوش الذين جاءوا حتى يروكم فيعلموا أنا قد أحطنا بهم من كل جانب ، فحينئذ جاءت البرد من جهته بطلب الأمان ، ويجهرون بالإجابة إلى أن يركب في عشرة سروج ، ويترك طلبه بالقطيفة ، وذلك يوم الجمعة ، فلما كان الليل ركبت أنا والجيش في السلاح طول الليل ، وخشيت أن تكون مكيدة وخديعة ، فجاءتنا الجواسيس ، فأخبرونا أنهم قد أوقدوا نشابهم ، ورماحهم ، وكثيرا من سلاحهم ، فتحققنا عند ذلك طاعته وإجابته لكل ما رسم به ، فلما أصبح يوم السبت ، وصى ، وركب في عشرة سروج ، وسار نحو الديار المصرية ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من صفر دخل حاجب الحجاب الذي كان سجن في قلعة صرخد مع البريدي الذي قدم بسببه من الديار المصرية ، وتلقاه جماعة من الأمراء والكبراء ، وتصدق بصدقات كثيرة في داره ، وفرحوا به فرحا [ ص: 585 ] شديدا ، وهو والناس يقولون : إنه ذاهب إلى الديار المصرية معظما مكرما على تقدمة ألف ووظائف هناك . فلما كان يوم الخميس السابع والعشرين منه لم يفجأ الناس إلا وقد دخل القلعة المنصورة معتقلا بها مضيقا عليه ، فتعجب الناس من هذه الترحة من تلك الفرحة ، فما شاء الله كان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأربعاء رابع ربيع الأول عقد مجلس بسبب الحاجب بالمشهد من الجامع . وفي يوم الخميس أحضر الحاجب من القلعة إلى دار الحديث ، واجتمع القضاة هناك بسبب دعاوي يطلبون منه حق بعضهم . ثم لما كان يوم الاثنين تاسعه قدم من الديار المصرية مقدم البريدية بطلب الحاجب المذكور ، فأخرج من القلعة المنصورة ، وجاء إلى نائب السلطنة ، فقبل قدمه ، ثم خرج إلى منزله ، وركب من يومه قاصدا إلى الديار المصرية مكرما ، وخرج بين يديه خلق من العوام والحرافيش يدعون له ، وهذا أغرب ما أرخ ، فهذا الرجل نالته شدة عظيمة بسبب سجنه بصرخد ، ثم أفرج عنه ، ثم حبس في قلعة دمشق ، ثم أفرج عنه ، وذلك كله في نحو شهر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم جاءت الأخبار في يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى بعزل نائب السلطنة عن دمشق ، فلم يركب في الموكب يوم الاثنين ، ولا حضر في دار العدل ، ثم تحققت الأخبار بذلك ، وبذهابه إلى نيابة حلب ، ومجيء نائب حلب إلى دمشق ، فتأسف كثير من الناس عليه; لديانته ، وجوده ، وحسن معاملته لأهل العلم ، ولكن حاشيته لا ينفذون أوامره ، فتولد بسبب ذلك فساد عريض ، وحموا [ ص: 586 ] كثيرا من البلاد ، فوقعت الحروب بين أهلها بسبب ذلك ، وهاجت العشيرات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين خرج الأمير علي المارداني من دمشق في طلبه مستجملا في أبهة النيابة ، قاصدا إلى حلب المحروسة ، وقد ضرب وطاقه بوطأة برزة ، فخرج الناس للتفرج على طلبه . وفي هذا اليوم بعد خروج النائب بقليل دخل الأمير سيف الدين طيدمر الحاجب من الديار المصرية عائدا إلى وظيفة الحجوبية في أبهة عظيمة ، وتلقاه الناس بالشموع ، ودعوا له ، ثم ركب من يومه إلى خدمة ملك الأمراء إلى وطأة برزة ، فقبل يده ، وخلع عليه ملك الأمراء ، واصطلحا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية