الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 710 ] القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [276] يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم .

                                                                                                                                                                                                                                      يمحق الله الربا أي: يذهب ريعه ويمحو خيره، وإن كان زيادة في الظاهر فلا ينتفع به في الآخرة كما قال تعالى: وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وقال تعالى: ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ويربي الصدقات أي: يكثرها وينميها،إن كانت نقصانا في الشاهد.

                                                                                                                                                                                                                                      فوائد:

                                                                                                                                                                                                                                      الأولى: قال القاشاني: لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين، والمال الحاصل من الربا لا بركة له ؛ لأنه حصل من مخالفة الحق، فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي ؛ إذ كل طعام يولد في آكله دواعي وأفعالا من جنسه، فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة، وإن كان مكروها فإلى أفعال مكروهة، وإن كان مباحا فإلى مباحة، وإن كان من طعام فضل فإلى مندوبات، وكان في أفعاله متبرعا متفضلا، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك، فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله، فتزداد عقوباته وآثامه أبدا، ويتلف الله ماله في الدنيا، فلا ينتفع به أعقابه وأولاده، فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو المحق الكلي. وأما المتصدق فلكون ماله مزكى يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل، وآكله لا يكون إلا مطيعا في أفعاله، ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعا به. وذلك [ ص: 711 ] هو الزيادة في الحقيقة، ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة. وأي زيادة أفضل مما تبقى عند الله؟! ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصانا. وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله؟!

                                                                                                                                                                                                                                      الثانية: قال القاشاني عليه الرحمة قبل ذلك: آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر، فإن كل مكتسب له توكل ما فيه كسبه، قليلا كان أو كثيرا، كالتاجر والزارع والمحترف، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب، فهم على غير معلوم في الحقيقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم » . وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه. سواء ربح الآخذ أو خسر، فهو محجوب عن ربه بنفسه، وعن رزقه بتعيينه. لا توكل له أصلا، فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله. وأخرجه من حفظه وكلاءته، فاختطفه الجن وخبلته، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسه الشيطان فتخبطه، لا يهتدي إلى مقصد.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالثة: قال بعض العلماء العمرانيين: يشترط لجواز التمول أن يكون من وجه مشروع كما في مقابلة عمل أو معاوضة، وأن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، ولذا حرمت الشرائع السماوية كلها، وكذلك الحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا، قصدا لحفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية، لأن الربا هو كسب بدون مقابل مادي ؛ ففيه معنى الغصب، وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق، وبدون تعرض لخسائر طبيعية، كالتجارة والزراعة والأملاك، ومن الشاهد: أن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: وقد نظر الماليون والاقتصاديون في أمر الربا فقالوا: إن المعتدل منه نافع [ ص: 712 ] بل لا بد منه. أولا: لأجل قيام المعاملات الكبيرة. وثانيا: لأجل أن النقود الموجودة لا تفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها أيضا؟! وثالثا: لأجل أن الكثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح، أو لا يقدرون عليها. كما أن كثيرا من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان.

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات الأفراد والأمم، أما السياسيون والأخلاقيون فينظرون إلى أن ضرر ذلك في جمهور الأمم أكبر من نفعها، لأن هذه الثروات الأفرادية تمكن الاستبداد الداخلي، فتجعل الناس صنفين: عبيدا وأسيادا. وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة مالا وعدة، وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة. ولذلك حرمت الأديان الربا تحريما مغلظا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابعة: قال الرازي: لما بالغ تعالى في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخيرات، فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في الحقيقة، وإن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى. ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه منهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القفال: ونظير قوله: يمحق الله الربا المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا. ونظير قوله: ويربي الصدقات المثل الذي ضربه بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.

                                                                                                                                                                                                                                      والله لا يحب كل كفار أثيم صيغتا مبالغة من الكفر والإثم، لاستمرار مستحل الربا وآكله عليهما وتماديه في ذلك. وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار، لا من فعل المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية