الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : ( ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة ، والعرض [ ص: 589 ] والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب والصراط والميزان ) .

ش : الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة ، والعقل والفطرة السليمة . فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز ، وأقام الدليل عليه ، ورد على منكريه في غالب سور القرآن .

وذلك : أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالله ، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم ، وهو فطري ، كلهم يقر بالرب ، إلا من عاند ، كفرعون ، بخلاف الإيمان باليوم الآخر ، فإن منكريه كثيرون ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء ، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين ، وكان هو الحاشر المقفي - بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء . ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم ، أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعلوا هذه حجة [ ص: 590 ] لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري .

والقرآن بين معاد النفس عند الموت ، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع . وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى ، وينكرون معاد الأبدان ، ويقول من يقول منهم : إنه لم يخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل ! وهذا كذب ، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء ، من آدم إلى نوح ، إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام .

وقد أخبر الله بها من حين أهبط آدم ، فقال تعالى : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون [ الأعراف : 24 - 25 ] . ولما قال إبليس اللعين : رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم [ ص : 79 - 81 ] .

وأما نوح عليه السلام فقال : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا [ نوح : 17 - 18 ] .

وقال إبراهيم عليه السلام : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ الشعراء : 82 ] . إلى آخر القصة . وقال : ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب [ إبراهيم : 41 ] . وقال : رب أرني كيف تحيي الموتى الآية ، [ البقرة : 260 ] .

وأما موسى عليه السلام ، فقال الله تعالى لما ناجاه : إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ طه : 15 - 16 ] .

بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد ، وإنما آمن بموسى ، قال [ ص: 591 ] تعالى حكاية عنه : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد [ غافر : 32 - 33 ] إلى قوله تعالى : ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 39 ] إلى قوله : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ غافر : 46 ] . وقال موسى : واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك [ الأعراف : 156 ] .

وقد أخبر الله في قصة البقرة : فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون [ البقرة : 73 ] .

وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، في آيات من القرآن ، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها : ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ الزمر : 71 ] .

وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا . فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم ، من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة . فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد ، يذكر ذلك فيها : في الدنيا والآخرة .

وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد ، فقال : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب الآية [ سبأ : 3 ] . وقال تعالى : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ يونس : 53 ] . وقال تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير [ التغابن : 7 ] .

[ ص: 592 ] وأخبر عن اقترابها ، فقال : اقتربت الساعة وانشق القمر [ القمر : 1 ] . اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ الأنبياء : 1 ] . سأل سائل بعذاب واقع للكافرين [ المعارج : 1 - 2 ] إلى أن قال : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا [ المعارج : 6 - 7 ] .

وذم المكذبين بالمعاد ، فقال : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ يونس : 45 ] . ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد [ الشورى : 18 ] . بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون [ النمل : 66 ] . وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا [ النحل : 38 ] ، إلى أن قال : وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين [ النحل : 39 ] . إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ غافر : 59 ] . ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا [ الإسراء : 97 - 99 ] .

[ ص: 593 ] وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا [ الإسراء : 49 - 52 ] .

فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل : فإنهم قالوا أولا : أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا فقيل لهم في جواب هذا السؤال : إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم ، فهلا كنتم خلقا لا يفنيه الموت ، كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك ؟ ! فإن قلتم : كنا خلقا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء - فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقا جديدا ؟ !

وللحجة تقدير آخر ، وهو : لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما ، فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم ، وينقلها من حال إلى حال ، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام ، مع شدتها وصلابتها ، بالإفناء والإحالة - فما الذي يعجزه فيما دونها ؟ ثم أخبر أنهم يسألون سؤالا آخر بقولهم : من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت ؟ فأجابهم بقوله : قل الذي فطركم أول مرة [ الإسراء : 51 ] . فلما أخذتهم الحجة ، ولزمهم حكمها ، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل [ ص: 594 ] المنقطع ، وهو قولهم : متى هو ؟ فأجيبوا بقوله : عسى أن يكون قريبا .

ومن هذا قوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ يس : 78 ] إلى آخر السورة . فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان ، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة ، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضع الأدلة وصحة البرهان لما قدر . فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد ، اقتضى جوابا ، فكان في قوله : ونسي خلقه ما وفى بالجواب . وأقام الحجة وأزال الشبهة ولما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى . إذ كل عاقل يعلم ضروريا أن من قدر على هذه قدر على هذه ، وأنه لو كان عاجزا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز . ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله : وهو بكل خلق عليم [ يس : 79 ] . فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ، ومواده وصورته ، فكذلك الثاني . فإذا كان تام العلم ، كامل القدرة ، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم ؟

ثم أكد الأمر بحجة قاهرة ، وبرهان ظاهر ، يتضمن جوابا عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام إذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة بما يدل على أمر البعث ، ففيه الدليل والجواب معا ، فقال : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون [ ص: 595 ] [ يس : 80 ] . فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر ، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة ، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة ، فالذي يخرج الشيء من ضده ، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها ، ولا تستعصي عليه ، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه ، من إحياء العظام وهي رميم .

ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم ، على الأيسر الأصغر ، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر ، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارا ، فقال : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [ يس : 81 ] فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض ، على جلالتهما ، وعظم شأنهما ، وكبر أجسامهما ، وسعتهما ، وعجيب خلقهما ، أقدر على أن يحيي عظاما قد صارت رميما ، فيردها إلى حالتها الأولى . كما قال في موضع آخر : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ غافر : 57 ] . وقال : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى [ الأحقاف : 33 ] . ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر ، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره ، الذي يفعل بالآلات والكلفة ، والتعب والمشقة ، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل ، [ ص: 596 ] بل لا بد معه من آلة ومعين ، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته ، وقوله للمكون : كن ، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده .

ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده ، فيتصرف فيه بفعله وقوله : وإليه ترجعون [ يس : 83 ] .

ومن هذا قوله سبحانه : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ القيامة : 36 - 40 ] . فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملا عن الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء ، كما قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ المؤمنون : 115 ] ، إلى آخر السورة . فإن من نقله من النطفة إلى العلقة ، ثم إلى المضغة ، ثم شق سمعه وبصره ، وركب فيه الحواس والقوى ، والعظام والمنافع ، والأعصاب والرباطات التي هي أشده ، وأحكم خلقه غاية الإحكام ، وأخرجه على هذا الشكل والصورة ، التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية ؟ أم [ ص: 597 ] كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى ؟ فلا يليق ذلك بحكمته ، ولا تعجز عنه قدرته .

فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب ، بالقول الوجيز ، الذي لا يكون أوجز منه ، والبيان الجليل ، الذي لا يتوهم أوضح منه ، ومأخذه القريب ، الذي لا تقع الظنون على أقرب منه .

وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج ، كما في قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة [ الحج : 5 ] إلى أن قال : وأن الله يبعث من في القبور [ الحج : 7 ] . وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ المؤمنون : 12 ] إلى أن قال : ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ المؤمنون : 16 ] . وذكر قصة أصحاب الكهف ، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية ، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية ، وقال فيها : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها [ الكهف : 21 ] .

والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة ، لهم في المعاد خبط واضطراب . وهم فيه على قولين : منهم من يقول : تعدم الجواهر ثم تعاد . ومنهم من يقول : تفرق الأجزاء ثم تجمع . فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان ، وذلك الحيوان أكله إنسان ، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا ، لم تعد من هذا ؟ وأورد عليهم : أن الإنسان يتحلل [ ص: 598 ] دائما ، فماذا الذي يعاد ؟ أهو الذي كان وقت الموت ؟ فإن قيل بذلك ، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة ، وهو خلاف ما جاءت به النصوص ، وإن كان غير ذلك ، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض ! فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل ، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني ! والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل ، ليس فيه شيء باق ، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان .

والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء : أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال ، فتستحيل ترابا ، ثم ينشئها الله نشأة أخرى ، كما استحال في النشأة الأولى : فإنه كان نطفة ، ثم صار علقة ، ثم صار مضغة ، ثم صار عظاما ولحما ، ثم أنشأه خلقا سويا . كذلك الإعادة : يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ، منه خلق ابن آدم ، ومنه يركب .

[ ص: 599 ] وفي حديث آخر : إن الأرض تمطر مطرا كمني الرجال ، ينبتون في القبور كما ينبت النبات .

فالنشأتان نوعان تحت جنس ، يتفقان ويتماثلان من وجه ، ويفترقان ويتنوعان من وجه . والمعاد هو الأول بعينه ، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداءة فرق ، فعجب الذنب هو الذي يبقى ، وأما سائره فيستحيل ، فيعاد من المادة التي استحال إليها . ومعلوم أن من رأى شخصا وهو صغير ، ثم رآه وقد صار شيخا ، علم أن هذا هو ذاك ، مع أنه دائما في تحلل واستحالة . وكذلك سائر الحيوان والنبات ، فمن رأى شجرة وهي صغيرة ، ثم رآها كبيرة ، قال : هذه تلك . وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة ، حتى يقال إن الصفات هي المغيرة ، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة آدم ، طوله ستون ذراعا ، كما ثبت في ( ( الصحيحين ) ) وغيرهما ، وروي : أن عرضه سبعة أذرع . وتلك نشأة باقية غير معرضة للآفات ، وهذه النشأة فانية معرضة للآفات . [ ص: 600 ] وقوله : " وجزاء الأعمال " - قال تعالى : مالك يوم الدين [ الفاتحة : 3 ] . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ النور : 25 ] . والدين : الجزاء ، يقال : كما تدين تدان ، أي كما تجازي تجازى ] ، وقال تعالى : جزاء بما كانوا يعملون [ السجدة : 17 ] و [ الأحقاف : 14 ] و [ الواقعة : 24 ] . جزاء وفاقا [ النبأ : 26 ] . من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون [ الأنعام : 160 ] من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ النمل : 89 - 90 ] . من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون [ القصص : 84 ] . وأمثال ذلك .

وقال صلى الله عليه وسلم ، فيما يروي عن ربه عز وجل ، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه : يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .

وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية