الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب الظاهر لغة ) أي في اللغة خلاف الباطن . وهو ( الواضح ) المنكشف . ومنه ظهر الأمر : إذا اتضح وانكشف . ويطلق على الشيء الشاخص المرتفع ، كما أن الظاهر من الأشخاص : هو المرتفع الذي تبادر إليه الأبصار كذلك في المعاني ( و ) الظاهر ( اصطلاحا ) أي في اصطلاح الأصوليين ( ما ) أي لفظ ( دل دلالة ظنية وضعا ) كأسد ( أو عرفا ) كغائط . فالظاهر الذي يفيد معنى مع احتمال غيره ، لكنه ضعيف ، فبسبب ضعفه خفي . فلذلك سمي اللفظ لدلالته على مقابله - وهو القوي - ظاهرا كالأسد ، فإنه ظاهر في الحيوان المفترس ويحتمل أن يراد به الرجل الشجاع مجازا . لكنه احتمال ضعيف ، والكلام في دلالة اللفظ الواحد ليخرج المجمل مع المبين ; لأنه - وإن أفاد معنى لا يحتمل غيره - فإنه لا يسمى مثله نصا ( والتأويل لغة : الرجوع ) وهو من آل يئول : إذا رجع . ومنه قوله تعالى { ابتغاء تأويله } أي طلب ما يئول إليه معناه ، وهو مصدر أولت الشيء ، أي فسرته ، من آل إذا رجع ; لأنه رجوع من الظاهر إلى ذلك الذي آل إليه في دلالته قال الله تعالى { هل ينظرون إلا تأويله } أي ما يئول إليه بعثهم ونشورهم . وأكثر ما يستعمل " التأويل " في المعاني وأكثره في الجمل ، وأكثر ما يستعمل " التفسير " في الألفاظ ، وأكثره في المفردات ( و ) التأويل ( اصطلاحا : حمل ) معنى ( ظاهر ) اللفظ ( على ) معنى ( محتمل مرجوح ) وهذا يشمل التأويل الصحيح والفاسد . ( وزد ) [ ص: 442 ] في الحد ( لصحيحه ) أي إن أردت أن تحد التأويل الصحيح - قولك ( بدليل ) أي حمله بدليل ( يصيره ) أي يصير الحمل ( راجحا ) على مدلوله الظاهر ، فيصير حد التأويل الصحيح : حمل ظاهر على محتمل مرجوح بدليل يصير راجحا ، وعلم مما تقدم أن الحمل بلا دليل محقق ، لشبه يخيل للسامع أنها دليل وعند التحقيق تضمحل - يسمى تأويلا فاسدا .

وأن حمل معنى اللفظ على ظاهره لا يسمى تأويلا ، وكذا حمل " المشترك " ونحوه من المتساوي على أحد محمليه أو محامله لدليل ، إذا تقرر هذا ( فإن قرب ) التأويل ( كفى أدنى مرجح ) نحو قوله سبحانه وتعالى { إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا عزمتم على القيام ( وإن بعد ) التأويل من الإرادة ; لعدم قرينة عقلية أو حالية ، أو مقالية تدل عليه ( افتقر ) في حمل اللفظ عليه ، وصرفه عن الظاهر ( إلى أقوى ) مرجح ( وإن تعذر ) الحمل لعدم الدليل ( رد ) التأويل وجوبا .

( فمن ) التأويل ( البعيد تأويل الحنفية { قوله صلى الله عليه وسلم لمن أسلم على عشر نسوة } اختر - وفي لفظ : { أمسك - منهن أربعا وفارق سائرهن } على ابتداء النكاح ، أو إمساك الأوائل ) أي ابتداء نكاح أربع منهن إن كان عقد عليهن معا ، وإن كان تزوجهن متفرقات على إمساك الأربع الأوائل ، ووجه بعده أن الفرقة لو وقعت بالإسلام لم يخيره ، وقد خيره والمتبادر عند السماع من الإمساك : الاستدامة ، والسؤال وقع عنه وخص التزويج فيهن . ولم يبين له شروط النكاح مع مسيس الحاجة إليه ، لقرب إسلامه .

وأيضا لم ينقل عنه ، ولا عن غيره ممن أسلم على أكثر من أربع : أنه جدد النكاح وأيضا فالابتداء محتاج إلى رضى من يبتديها ويصير التقدير : فارق الكل وابتدئ بعد ذلك من شئت . فيضيع قوله { اختر أربعا } ; لأنه قد لا يرضين أو بعضهن وأيضا الأمر للوجوب وكيف يجب عليه ابتداؤه . وليس بواجب في الأصل ومن ثم قال أبو زيد الدبوسي من الحنفية : هذا الحديث لا تأويل فيه ولو صح عندي لقلت به ( وأبعد منه ) أي من التأويل السابق تأويلهم ( قوله صلى الله عليه وسلم لمن أسلم عن أختين { اختر أيتهما شئت } [ ص: 443 ] على أحد الأمرين ) يعني على ابتداء نكاح إحداهما ، إن كان قد تزوجهما في عقد واحد ، أو إمساك الأولى منهما ، إن كان قد تزوجهما مفترقتين .

وإنما كان أبعد من الذي قبله ; لأن النافي للتأويل المذكور في الأول : هو الأمر الخارج عن اللفظ ، وهو شهادة الحال ، وهنا انضم إلى شهادة الحال مانع لفظا . وهو قوله عليه الصلاة والسلام { أيتهما شئت } فإن بتقدير نكاحهما على الترتيب تعيين الأولى للاختيار ولفظ { أيتهما شئت } يأباه . وللحنفية تأويل ثالث في الحديثين وهو أنه لعله أن يكون هذا كان قبل حصر النساء في أربع ، وقبل تحريم الجمع بين الأختين وهو مردود بما سبق ( و ) تأويلهم أيضا ( إطعام ستين مسكينا ) من قوله - سبحانه وتعالى - { فإطعام ستين مسكينا } ( على إطعام طعام ستين ) فعلى هذا التأويل : لو رددها المخرج على مسكين واحد ستين يوما أجزأته قالوا : لأن المقصود دفع الحاجة ودفع حاجة ستين كحاجة واحد في ستين يوما . فجعلوا المعدوم - وهو : طعام " - مذكورا مفعولا به . والمذكور - وهو قوله " ستين " - معدوما لم يجعلوه مفعولا به ، مع ظهور قصد العدد لفضل الجماعة وبركتهم وتضافرهم على الدعاء للمحسن .

وهذا لا يوجد في الواحد وأيضا حمله على ذلك تعطيل للنص ، ولهذه الحكمة شرعت الجماعة في الصلاة وغيرها وأيضا فلا يجوز استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال ( وأبعد من ذلك ) المتقدم ذكره من التأويل ( تأويلهم ) ما في رواية أبي داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الغنم ( { في أربعين شاة شاة } على قيمتها ) أي قيمة شاة قالوا : لأن اندفاع الحاجة كما يكون بالشاة يكون بالقيمة وهو يؤدي إلى بطلان الأصل ; لأنه إذا وجبت القيمة لم تجب الشاة فعاد هذا الاستنباط على النص بالإبطال ، وذلك غير جائز ، ورد بأنهم لم يبطلوا إخراج الشاة بل قالوا بالتخيير بين الشاة وقيمة الشاة وهو استنباط يعود بالتعميم ، كما في { وليستنج بثلاثة أحجار } يعم في الخرق ونحوها ، وفي { لا يقضي القاضي وهو غضبان } يعم في كل ما يشوش الفكر ولا يعود بالإبطال .

وأجيب عن ذلك : بأن الشارع لعله راعى أن يأخذ [ ص: 444 ] الفقير من جنس مال الغني فيتشاركان في الجنس فتبطل القيمة فعاد بالبطلان من هذه الجهة وباب الزكاة فيه ضرب من التعبد قال البرماوي : وأيضا فإذا كان التقدير " قيمة شاة " يكون قولهم بإجزاء الشاة ليس بالنص : بل بالقياس فيترك المنصوص ظاهرا ويخرج ، ثم يدخل بالقياس ، فهذا عائد بإبطال النص لا محالة . انتهى .

ووجه كونه أبعد مما قبله : لأنه يلزم أن لا تجب الشاة كما تقدم . وكل فرع استنبط من أصل يبطل ببطلانه ( و ) تأويلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها { أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل } وفي رواية { باطل باطل باطل } ( على الصغيرة والأمة والمكاتبة ) ووجه بعد هذا التأويل : أن الصغيرة ليست بامرأة في لسان العرب وقد ألزموا بسقوط هذا التأويل على مذهبهم فإن الصغيرة لو زوجت نفسها كان العقد عندهم صحيحا لا يتوقف على إجازة الولي قاله البرماوي . فلما ألزموا بذلك فروا إلى حمله على الأمة فألزموا ببطلانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم { فلها المهر } ومهر الأمة إنما هو لسيدها ففروا من ذلك إلى حمله على المكاتبة فقيل لهم : هو أيضا باطل ; لأن حمل صيغة العموم الصريحة وهي " أي " المؤكدة بما معها في قوله " أيما " على صورة نادرة لا تخطر ببال المخاطبين غالبا في غاية البعد .

( و ) تأويلهم أيضا { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } رواه أبو داود والترمذي ، والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر على خلاف في رفعه ووقفه ( على ) صوم ( القضاء والنذر المطلق ) بناء منهم على مذهبهم في صحة الفرض بنية من النهار قال ابن الحاجب : فجعلوه كاللغز في حملهم العام على صورة نادرة فإن ثبت ما ادعوه من الحكم بدليل - كما قالوا - فليطلب لهذا الحديث تأويل قريب عن هذا التأويل مثل نفي الكمال . قال إمام الحرمين : وهو أقرب من التأويل السابق ( و ) تأويلهم أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام أحمد وابن حبان من حديث أبي سعيد مرفوعا ( { ذكاة الجنين ذكاة أمه } على التشبيه ) ونصب { ذكاة أمه } على تقدير كذكاة أمه ، فنصب على إسقاط الخافض ، وهو [ ص: 445 ] كاف التشبيه قال ابن عمرون : تقديرهم حذف الكاف ليس بشيء ; لأنه يلزم منه جواز قولك : زيد عمرا ، أي كعمرو وأيضا فحذف حرف الخفض من غير سبق فعل يدل على التوسع فيه وعلى تقدير صحته : فيجوز أن يكون على الظرفية ، أي وقت ذكاة أمه ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا دليل الجماعة ; لأن الثاني إنما يكون وقتا للأول إذا أغنى الفعل الثاني عن الأول ، ويرجح هذا التقدير موافقته لرواية الرفع .

لكن الجمهور وهموا رواية النصب وقالوا : المحفوظ الرفع كما قاله الخطابي وغيره ، إما لأن " ذكاة " الأول خبر مقدم . و " ذكاة " الثاني هو المبتدأ ، أي ذكاة أم الجنين ذكاة له ، وإلا لم يكن للجنين مزية . وحقيقة الجنين ما كان في البطن فعلم أنه ليس المراد أنه يذكى كذكاة أمه ، بل إن ذكاة أمه ذكاة له كافية عن تذكيته . ويؤيده رواية البيهقي { ذكاة الجنين في ذكاة أمه } ( و ) تأويلهم أيضا قوله - سبحانه وتعالى - في آيتي الفيء والغنيمة ( { ولذي القربى } : على الفقراء ) دون الأغنياء ( منهم ) أي من ذوي القربى قالوا : لأن المقصود دفع الخلة ، ولا خلة مع الغنى فعطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القرابة هي سبب استحقاقهم ولو مع الغنى ، لتعظيمها وتشريفها مع إضافته فاللام التمليك ، ولا يلزمنا نحن المالكية والشافعية ذلك في اليتيم ، للخلاف فيه فإن عللوا بالفقر ولم تكن قرابة عطلوا لفظ " ذي القربى " ، وإن اعتبروهما معا فلا يبعد وغايته : تخصيص عموم ، كما فعله الشافعي في أحد القولين في تخصيص اليتامى بذوي الحاجة .

( و ) من التأويل البعيد تأويل ( المالكية والشافعية ) متن حديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطبراني والترمذي - وقال : لا نعرفه مسندا إلا من حديث حماد عن قتادة عن الحسن وروي من قول عمر ، ومن قول الحسن - وهو ( { من ملك ذا رحم محرم فهو حر } على عمودي نسبه ) ، وإنما كان بعيدا : لقصر اللفظ العام على بعض مدلولاته من غير دليل قال ابن مفلح وغيره : لعموم اللفظ وظهور قصده للتنبيه على حرمة المحرم وصلته قال الكوراني : فإن قلت لما وجه ما ذهب إليه الشافعي ، إذا لم يكن هذا التأويل صحيحا عندكم ؟ قلت : لما دل الدليل على أن الرق لا يزول إلا بالعتق قاس عتق [ ص: 446 ] الأصول والفروع على وجوب النفقة ، إذ لا تجب عنده إلا للأصول والفروع أو بالحديث الصحيح الوارد في مسلم { لا يجزي ولد والده إلا أن يجده عبدا فيشتريه فيعتقه } أي بنفس الشراء وقد وافقه الخصم على هذا ، وبالآية الكريمة في عتق الولد وهي قوله تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } وجه الدلالة : أنه سبحانه وتعالى أبطل إثبات الولدية بإثبات العبودية فعلم أنهما لا يجتمعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية