الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الحافظ أبو نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن: "اعلموا - أرشدنا الله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم، بل أخس حالا منهم في [ ص: 84 ] الباطن، من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذي تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة، وقالت - يعني علماء العربية -: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا، فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف، وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض، وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى ؛ لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق، والكل والبعض، والحركة والسكون، وحكم الصفة الذاتية حكم الذات.

قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له [ ص: 85 ] أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: "خلق الله، وعبد الله، وفعل الله".

"قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام، لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل".

فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر، وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه "تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام" ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة فيه تشبيه، وتعلقوا بشبه، منها قول الأخطل:


إن البيان من الفؤاد، وإنما. .. جعل اللسان على الفؤاد دليلا

[ ص: 86 ] فغيروه، وقالوا: "إن الكلام من الفؤاد" وزعموا أنه لهم حجة على مقالتهم في قول الله تعالى: ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول [ سورة المجادلة: 8]، وفي قول الله عز وجل: فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم [ سورة يوسف: 77] واحتجوا بقول العرب: "أرى في نفسك كلاما، وفي وجهك كلاما" فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت والنائم، ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام.

وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه، ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر، بل يجانب ويقمع".

التالي السابق


الخدمات العلمية