الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] النوع الثامن والأربعون في مشكله وموهم الاختلاف والتناقض .

أفرده بالتصنيف قطرب .

والمراد به ما يوهم التعارض بين الآيات .

وكلامه تعالى منزه عن ذلك كما قال : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] ، ولكن قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافا وليس به في الحقيقة ، فاحتيج لإزالته ، كما صنف في مختلف الحديث وبيان الجمع بين الأحاديث المتعارضة ، وقد تكلم في ذلك ابن عباس وحكي عنه التوقف في بعضها .

قال عبد الرزاق في تفسيره : أنبأنا معمر ، عن رجل عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : رأيت أشياء تختلف علي من القرآن ، فقال ابن عباس : ما هو ؟ أشك ؟ قال : ليس بشك ولكنه اختلاف ، قال : هات ما اختلف عليك من ذلك . قال : أسمع الله يقول : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، وقال : ولا يكتمون الله حديثا [ النساء : 42 ] ، فقد كتموا وأسمعه يقول : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ المؤمنون : 101 ] ، ثم قال : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ الطور : 25 ] ، وقال : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ فصلت : 9 - 11 ] ، حتى بلغ طائعين [ فصلت : 11 ] ، ثم قال في الآية الأخرى : [ ص: 6 ] أم السماء بناها [ النازعات : 27 ] ، ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها [ النازعات : 30 ] ، وأسمعه يقول : وكان الله ، ما شأنه يقول : وكان الله ؟

فقال ابن عباس : أما قوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، فإنهم لما رأوا يوم القيامة ، وأن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم ، فقالوا : والله ربنا ما كنا مشركين فختم الله على أفواههم فتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا .

وأما قوله : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ المؤمنون : 101 ] ، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون .

وأما قوله : خلق الأرض في يومين [ فصلت : 9 ] ، فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض .

وأما قوله والأرض بعد ذلك دحاها [ النازعات : 30 ] ، يقول : جعل فيها جبلا وجعل فيها نهرا ، وجعل فيها شجرا ، وجعل فيها بحورا .

وأما قوله : وكان الله فإن الله كان ولم يزل كذلك ، وهو كذلك عزيز حكيم عليم قدير ، لم يزل كذلك .

فما اختلف عليك من القرآن فهو يشبه ما ذكرت لك ، وإن الله لم ينزل شيئا إلا وقد أصاب الذي أراد ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

أخرجه بطوله الحاكم في المستدرك وصححه ، وأصله في الصحيح .

قال ابن حجر في شرحه : حاصل فيه السؤال عن أربعة مواضع .

الأول : نفي المسألة يوم القيامة وإثباتها .

[ ص: 7 ] الثاني : كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه .

الثالث : خلق الأرض أو السماء أيهما تقدم .

الرابع : الإتيان بحرف ( كان ) الدالة على المضي مع أن الصفة لازمة .

وحاصل جواب ابن عباس عن الأول : أن نفي المساءلة فيما قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد ذلك .

وعن الثاني : أنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق أيديهم وجوارحهم .

وعن الثالث : أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوة ، ثم خلق السماوات فسواهن في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين ، فتلك أربعة أيام للأرض .

وعن الرابع : بأن ( كان ) وإن كانت للماضي لكنها لا تستلزم الانقطاع بل المراد أنه لم يزل كذلك .

فأما الأول : فقد جاء فيه تفسير آخر : أن نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عدا ذلك وهذا منقول عن السدي ، أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن نفي المساءلة عند النفخة الأولى وإثباتها بعد النفخة الثانية .

وقد تأول ابن مسعود نفي المساءلة على معنى آخر : وهو طلب بعضهم من بعض العفو فأخرج ابن جرير من طريق زاذان قال : أتيت ابن مسعود فقال : يؤخذ بيد العبد يوم القيامة فينادى : ألا إن هذا فلان بن فلان ، فمن كان له حق قبله فليأت ، قال : فتود المرأة يومئذ أن يثبت لها حق على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ المؤمنون : 101 ] .

ومن طريق أخرى قال : لا يسأل أحد يومئذ بنسب شيئا ولا يتساءلون به ، ولا يمت برحم .

[ ص: 8 ] وأما الثاني فقد ورد بأبسط منه فيما أخرجه ابن جرير ، عن الضحاك بن مزاحم أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال : قول الله : ولا يكتمون الله حديثا [ النساء : 42 ] ، وقوله : والله ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، فقال : إني أحسبك قمت من عند أصحابك ، فقلت لهم : آتي ابن عباس ، ألقي عليه متشابه القرآن ؟ فأخبرهم : أن الله إذا جمع الناس يوم القيامة قال المشركون : إن الله لا يقبل إلا ممن وحده فيسألهم فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، قال : فيختم على أفواههم وتستنطق جوارحهم .

ويؤيده ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في أثناء حديث ، وفيه : ثم يلقى الثالث فيقول : رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك . ويثني ما استطاع فيقول : الآن نبعث شاهدا عليك ، فيفكر في نفسه : من الذي يشهد علي فيختم على فيه وتنطق جوارحه .

وأما الثالث ففيه أجوبة أخرى : منها أن ( ثم ) بمعنى الواو ، فلا إيراد .

وقيل : المراد ترتيب الخبر لا المخبر به كقوله : ثم كان من الذين آمنوا [ البلد : 17 ] .

وقيل : على بابها وهي لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في الزمان .

وقيل : خلق بمعنى قدر .

وأما الرابع : وجواب ابن عباس عنه ، فيحتمل كلامه أنه أراد أنه سمى نفسه غفورا رحيما وهذه التسمية مضت لأن التعلق انقضى ، وأما الصفتان فلا تزالان كذلك لا ينقطعان; لأنه تعالى إذا أراد المغفرة أو الرحمة في الحال أو الاستقبال وقع مراده . قاله الشمس الكرماني ، قال : ويحتمل أن يكون ابن عباس أجاب بجوابين :

أحدهما : أن التسمية هي التي كانت وانتهت والصفة لا نهاية لها .

والآخر أن معنى ( كان ) الدوام ، فإنه لا يزال كذلك .

ويحتمل أن يحمل السؤال على مسلكين ، والجواب على دفعهما كأن يقال : هذا [ ص: 9 ] اللفظ مشعر بأنه في الزمان الماضي كان غفورا رحيما ، مع أنه لم يكن هناك من يغفر له أو يرحم ، وبأنه ليس في الحال كذلك كما يشعر به لفظ كان .

والجواب عن الأول : بأن كان في الماضي تسمى به .

وعن الثاني بأن كان تعطي معنى الدوام .

وقد قال النحاة : كان لثبوت خبرها ماضيا دائما أو منقطعا .

وقد أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن يهوديا قال له : إنكم تزعمون أن الله كان عزيزا حكيما ، فكيف هو اليوم ؟ فقال : إنه كان في نفسه عزيزا حكيما .

موضع آخر توقف فيه ابن عباس قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن أبي مليكة قال : سأل رجل ابن عباس عن في يوم كان مقداره ألف سنة [ السجدة : 5 ] ، وقوله : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ المعارج : 4 ] ، فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه ، الله أعلم بهما .

وأخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه وزاد : ما أدري ما هما ، وأكره أن أقول فيهما ما لا أعلم .

قال ابن أبي مليكة : فضربت البعير حتى دخلت على سعيد بن المسيب فسئل عن ذلك فلم يدر ما يقول ، فقلت له : ألا أخبرك بما حضرت من ابن عباس ؟ فأخبرته ، فقال ابن المسيب للسائل : هذا ابن عباس قد اتقى أن يقول فيهما ، وهو أعلم مني .

وروي عن ابن عباس أيضا ، أن يوم الألف هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه ، ويوم الألف في سورة الحج هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات ، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة .

فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رجلا قال له : حدثني ما هؤلاء الآيات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ المعارج : 4 ] ، و يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة [ السجدة : 5 ] ، وإن يوما عند ربك كألف سنة [ الحج : 47 ] ، فقال : يوم القيامة حساب خمسين ألف سنة والسماوات في ستة أيام كل يوم يكون ألف سنة ، و يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ، قال : ذلك مقدار المسير .

[ ص: 10 ] وذهب بعضهم إلى أن المراد بها يوم القيامة ، وأنه باعتبار حال المؤمن والكافر بدليل قوله : يوم عسير على الكافرين غير يسير [ المدثر : 9 - 10 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية