الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

فصل

ما رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عقوبات العصاة

ومن عقوبات المعاصي ما رواه البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه : هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا ؟ فيقص عليه من شاء الله أن يقص ، وأنه قال لنا ذات غداة : إنه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما انبعثا لي ، وإنهما قالا لي : انطلق وإني انطلقت معهما ، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة ، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه ، فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا فيقع الحجر ، فيأخذه ، فلا يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى ، قال : قلت لهما : سبحان الله ما هذان ؟ قالا لي : انطلق انطلق .

فانطلقنا ، فأتينا على رجل مستلق لقفاه ، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد ، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه ويشرشر شدقه إلى قفاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه ، ثم يتحول إلى الجانب الآخر ، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول ، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصبح ذلك الجانب كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، قال : قلت : سبحان الله ! ما هذان ؟ فقالا لي : انطلق انطلق .

[ ص: 63 ] فانطلقنا فأتينا على مثل التنور ، وإذا فيه لغط وأصوات ، قال : فاطلعنا فيه ، فإذا فيه رجال ونساء عراة ، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم ، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا ، فقال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : فقالا لي : انطلق انطلق .

فانطلقنا ، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم ، فإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ما شاء الله أن يسبح ، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا ، فينطلق فيسبح ، ثم يرجع إليه كلما رجع إليه ، فيفغر له فاه فيلقمه حجرا ، قلت لهما : ما هذان ؟ قالا لي : انطلق انطلق .

فانطلقنا ، فأتينا على رجل كريه المرآة ، أو كأكره ما أنت راء رجلا مرأى ، وإذا هو عنده نار يحثها ويسعى حولها ، قال : قلت لهما : ما هذا ؟ قال : قالا لي : انطلق انطلق .

فانطلقنا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع ، وإذا بين ظهراني الروضة رجل طويل ، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء ، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط ، قال : قلت : ما هذا ؟ وما هؤلاء ؟ قال : قالا لي : انطلق انطلق .

فانطلقنا ، فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها ، ولا أحسن ، قال : قالا لي : ارق فيها ، فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ، ولبن فضة ، قال : فأتينا باب المدينة ، فاستفتحنا ، ففتح لنا ، فدخلناها ، فتلقانا رجال ، شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر منهم كأقبح ما أنت راء ، قال : قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، قال : وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض ، فذهبوا فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا ، قد ذهب ذلك السوء عنهم ، قال : قالا لي : هذه جنة عدن وها ذاك منزلك .

قال : فسما بصري صعدا ، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء ، قال : قالا لي : هذا منزلك ، قلت لهما : بارك الله فيكما ، فذراني فأدخله ، قالا : أما الآن فلا ، وأنت داخله .

قلت لهما : فإني رأيت منذ الليلة عجبا ، فما هذا الذي رأيت ؟ قال : قالا لي : أما إنا سنخبرك .

أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر ، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه ، وينام عن الصلاة المكتوبة .

وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه ، فإنه الرجل يغدو إلى بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق .

[ ص: 64 ] وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور ، فإنهم الزناة والزواني .

وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة ، فإنه آكل الربا .

وأما الرجل الكريه المنظر الذي عند النار يحثها ويسعى حولها ، فإنه مالك خازن جهنم .

وأما الرجل الطويل الذي في الروضة ، فإنه إبراهيم .

وأما الولدان الذين حوله ، فكل مولود مات على الفطرة - وفي رواية البرقاني : ولد على الفطرة - فقال بعض المسلمين : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : وأولاد المشركين .

وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم .


التالي السابق


الخدمات العلمية