الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الفن الثاني من هذا القطب : في التقليد والاستفتاء وحكم العوام فيه وفيه أربع مسائل : مسألة : التقليد هو قبول قول بلا حجة .

              وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الأصول ولا [ ص: 371 ] في الفروع وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد وأن ذلك هو الواجب وأن النظر والبحث حرام . ويدل على بطلان مذهبهم مسالك ، الأول : هو أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة فلا بد من دليل .

              ودليل الصدق المعجزة فيعلم صدق الرسول عليه السلام بمعجزته وصدق كلام الله بإخبار الرسول عن صدقه وصدق أهل الإجماع بإخبار الرسول عن عصمتهم ويجب على القاضي الحكم بقول العدول لا بمعنى اعتقاد صدقهم لكن من حيث دل السمع على تعبد القضاة باتباع غلبة الظن صدق الشاهد أم كذب ، ويجب على العامي اتباع المفتي ; إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أخطأ أم أصاب . فنقول : قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدا ، فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل .

              المسلك الثاني : أن نقول : أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه ؟ فإن جوزتموه فإنكم شاكون في صحة مذهبكم ، وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته بضرورة أم بنظر أو تقليد ، ولا ضرورة ولا دليل ؟ فإن قلدتموه في قوله : إن مذهبه حق فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه ؟ وإن قلدتم فيه غيره فبم عرفتم صدق المقلد الآخر ؟ وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود ؟ وبم تفرقون بين قول مقلدكم : إني صادق محق وبين قول مخالفكم ؟ ويقال لهم أيضا في إيجاب التقليد : هل تعلمون وجوب التقليد أم لا ؟ فإن لم تعلموه فلم قلدتم وإن علمتم فبضرورة أم بنظر أو تقليد ؟ ويعود عليهم السؤال في التقليد ، ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم .

              فإن قيل : عرفنا صحته بأنه مذهب للأكثرين فهو أولى بالاتباع . قلنا : وبم أنكرتم على من يقول : الحق دقيق غامض لا يدركه إلا الأقلون ويعجز عنه الأكثرون ; لأنه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر ونفاذ القريحة والخلو عن الشواغل . ويدل عليه أنه عليه السلام كان محقا في ابتداء أمره وهو في شرذمة يسيرة على

              خلاف الأكثرين ، وقد قال تعالى : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر ؟ ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين ، فإن ساووهم توقفوا وإن غلبوا رجحوا ، كيف وهو على خلاف نص القرآن ؟ قال الله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } { ولكن أكثرهم لا يعلمون } { وأكثرهم للحق كارهون } فإن قيل : فقد قال عليه السلام : { عليكم بالسواد الأعظم } و من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة { والشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد } قلنا : أولا ، بم عرفتم صحة هذه الأخبار وليست متواترة ؟ فإن كان عن تقليد فبم تتميزون عن مقلد اعتقد فسادها ؟ ثم لو صح فمتبع السواد الأعظم ليس بمقلد بل علم بقول الرسول وجوب اتباعه وذلك قبول قول بحجة وليس بتقليد .

              ثم المراد بهذه الأخبار ذكرناه في كتاب " الإجماع " وأنه الخروج عن موافقة الإمام أو موافقة الإجماع . ولهم شبه :

              الشبهة الأولى : قولهم : إن الناظر متورط في شبهات [ ص: 372 ] وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى .

              قلنا : وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار حيث قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ؟ ثم نقول : إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلا وضلالا فكأنكم حملتم هذا خوفا من الوقوع في الشبهة ، كمن يقتل نفسه عطشا وجوعا خيفة من أن يغص بلقمة أو يشرق بشربة لو أكل وشرب ، وكالمريض يترك العلاج رأسا خوفا من أن يخطئ في العلاج ، وكمن يترك التجارة والحراثة خوفا من نزول صاعقة فيختار الفقر خوفا من الفقر .

              الشبهة الثانية : تمسكهم بقوله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } وأنه نهى عن الجدال في القدر والنظر يفتح باب الجدال قلنا : نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى : { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } بدليل قوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } فأما القدر فنهاهم عن الجدال فيه ; إما لأنه كان قد وقفهم على الحق بالنص فمنعهم عن المماراة في النص أو كان في بدء الإسلام فاحترز عن أن يسمعه المخالف فيقول : هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم في الدين أو لأنهم كانوا مدفوعين إلى الجهاد الذي هو أهم عندهم .

              ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } { قل هاتوا برهانكم } ، هذا كله نهي عن التقليد وأمر بالعلم ، ولذلك عظم شأن العلماء وقال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } وقال عليه السلام : { يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين } ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم وقال ابن مسعود : " لا تكونن إمعة " قيل : وما إمعة ؟ قال : " أن يقول الرجل أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ، ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية