الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها وأنها تجب على الموسر والمعسر وتثبت في ذمة المعسر حتى يستطيع

                                                                                                                1111 حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير كلهم عن ابن عيينة قال يحيى أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت يا رسول الله قال وما أهلكك قال وقعت على امرأتي في رمضان قال هل تجد ما تعتق رقبة قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا قال فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا قال لا قال ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال تصدق بهذا قال أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال اذهب فأطعمه أهلك حدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن منصور عن محمد بن مسلم الزهري بهذا الإسناد مثل رواية ابن عيينة وقال بعرق فيه تمر وهو الزنبيل ولم يذكر فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                ( باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم

                                                                                                                ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها وأنها تجب على الموسر والمعسر

                                                                                                                وتثبت في ذمة المعسر حتى يستطيع )

                                                                                                                في الباب : حديث أبي هريرة في المجامع امرأته في نهار رمضان ، ومذهبنا ومذهب العلماء كافة وجوب الكفارة عليه إذا جامع عامدا جماعا أفسد به صوم يوم من رمضان ، والكفارة عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب التي تضر بالعمل إضرارا بينا ، فإن عجز عنها فصوم شهرين متتابعين ، فإن عجز فإطعام ستين مسكينا كل مسكين مد من طعام ، وهو رطل وثلث بالبغدادي ، فإن عجز عن الخصال الثلاث ، فللشافعي قولان : أحدهما : لا شيء عليه ، وإن استطاع بعد ذلك فلا شيء عليه ، واحتج لهذا القول بأن حديث هذا المجامع ظاهر بأنه لم يستقر في ذمته شيء ؛ لأنه أخبر بعجزه ، ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الكفارة ثابتة في ذمته ، بل أذن له في إطعام عياله .

                                                                                                                والقول الثاني - وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار - : أن الكفارة لا تسقط ، بل تستقر في ذمته ، حتى يمكن ، قياسا على سائر الديون والحقوق ، والمؤاخذات ، كجزاء الصيد وغيره .

                                                                                                                وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة ، بل فيه دليل لاستقرارها ؛ لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الكفارة بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ، ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر ، فأمره بإخراجه ، فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ، ولم يأمره بإخراجه ، فدل على ثبوتها في ذمته ، وإنما أذن له في إطعام عياله ؛ لأنه كان محتاجا [ ص: 183 ] ومضطرا إلى الإنفاق على عياله في الحال ، والكفارة على التراخي ، فأذن له في أكله وإطعام عياله ، وبقيت الكفارة في ذمته ، وإنما لم يبين له بقاءها في ذمته ؛ لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين ، وهذا هو الصواب في معنى الحديث وحكم المسألة ، وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة .

                                                                                                                وأما المجامع ناسيا فلا يفطر ولا كفارة عليه ، هذا هو الصحيح من مذهبنا ، وبه قال جمهور العلماء ، ولأصحاب مالك خلاف في وجوبها عليه ، وقال أحمد : يفطر وتجب به الكفارة ، وقال عطاء وربيعة والأوزاعي والليث والثوري : يجب القضاء ولا كفارة ، دليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر ، والجماع في معناه ، وأما الأحاديث الواردة في الكفارة في الجماع ، فإنما هي في جماع العامد ، ولهذا قال في بعضها : ( هلكت ) ، وفي بعضها : ( احترقت . احترقت ) وهذا لا يكون إلا في عامد ، فإن الناسي لا إثم عليه بالإجماع .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( هل تجد ما تعتق رقبة ) ( رقبة ) منصوب بدل من ( ما ) .

                                                                                                                قوله : ( فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق ) هو بفتح العين والراء ، هذا هو الصواب المشهور في الرواية واللغة ، وكذا حكاه القاضي عن رواية الجمهور ، ثم قال : ورواه كثير من شيوخنا وغيرهم بإسكان الراء .

                                                                                                                قال : والصواب الفتح ، ويقال : للعرق : ( الزبيل ) بفتح الزاي من غير نون ( والزنبيل ) بكسر الزاي وزيادة نون ، [ ص: 184 ] ويقال له : ( القفة ) و ( المكتل ) بكسر الميم وفتح التاء المثناة فوق ، و ( السفيفة ) بفتح السين المهملة وبالفاءين ، قال القاضي : قال ابن دريد : سمي ( زبيلا ) ؛ لأنه يحمل فيه الزبل ، والعرق عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعا ، وهي ستون مدا لستين مسكينا ، لكل مسكين مد .

                                                                                                                قوله : ( قال : أفقر منا ) كذا ضبطناه ( أفقر ) بالنصب ، وكذا نقل القاضي أن الرواية فيه بالنصب على إضمار فعل تقديره : أتجد أفقر منا ، أو أتعطي ، قال : ويصح رفعه على تقدير : هل أحد أفقر منا ، كما قال في الحديث الآخر بعده : ( أغيرنا ) كذا ضبطناه بالرفع ، ويصح النصب على ما سبق ، هذا كلام القاضي ، وقد ضبطنا الثاني بالنصب أيضا ، فهما جائزان كما سبق توجيههما .

                                                                                                                قوله : ( فما بين لابتيها ) هما الحرتان ، والمدينة بين حرتين ، و ( الحرة ) الأرض الملبسة حجارة سوداء ، ويقال : لابة ، ولوبة ، ونوبة بالنون ، حكاهن أبو عبيد والجوهري ، ومن لا يحصى من أهل اللغة ، قالوا : ومنه قيل للأسود : لوبي ، ونوبي باللام والنون ، قالوا : وجمع اللابة : لوب ، ولاب ، ولابات ، وهي غير مهموزة .

                                                                                                                قوله : ( وهو الزنبيل ) هكذا ضبطناه بكسر الزاي وبعدها نون ، وقد سبق بيانه قريبا .

                                                                                                                [ ص: 185 ]



                                                                                                                الخدمات العلمية