الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قالوا استئناف ببيان بعض ما فعلوا من الفساد، أي: قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح [ ص: 213 ] عليه السلام، وكان ذلك - على ما روي عن ابن عباس بعد أن عقروا الناقة أنذرهم بالعذاب، وقوله: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ... إلخ -: تقاسموا بالله أمر من التقاسم، أي: التحالف، وقع مقول القول، وهو قول الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون فعلا ماضيا بدلا من (قالوا) أو حالا من فاعله بتقدير قد أو بدونها، أي: قالوا متقاسمين، ومقول القول لنبيتنه وأهله ... إلخ، وجوز أبو حيان - على هذا - أن يكون (بالله) من جملة المقول.

                                                                                                                                                                                                                                      والبيات مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا وهو غافل، وأرادوا قتله - عليه السلام - وأهله ليلا وهم غافلون، وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي ليلى «تقسموا» بغير ألف وتشديد السين، والمعنى كما في قراءة الجمهور، وقرأ الحسن وحمزة والكسائي «لتبيتنه» بالتاء على خطاب بعضهم لبعض، وقرأ مجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة والأعمش «ليبيتنه» بياء الغيبة و(تقاسموا) على هذه القراءة لا يصح إلا أن يكون خبرا بخلافه عن القراءتين الأوليين فإنه يصح أن يكون خبرا كما يصح أن يكون أمرا؛ وذلك لأن الأمر خطاب، والمقسم عليه بعده لو نظر إلى الخطاب وجب تاء الخطاب، ولو نظر إلى صيغة قولهم عند الحلف وجب النون، فأما ياء الغائب فلا وجه له، وأما إذا جعل خبرا فهو على الغائب، كما تقول: (حلف ليفعلن).

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لنقولن لوليه أي: لولي صالح، والمراد به طالب ثأره من ذوي قرابته إذا قتل، وقرأ «لتقولن» بالتاء من قرأ «لتبيتنه» كذلك، وقرأ «ليقولن» بياء الغيبة من قرأ بها فيما تقدم، وقرأ حميد بن قيس الأول بياء الغيبة وهذا بالنون.

                                                                                                                                                                                                                                      قيل: والمعنى على ذلك قالوا متقاسمين بالله ليبيتنه قوم منا، ثم لنقولن جميعنا لوليه: ما شهدنا مهلك أهله أي: ما حضرنا هلاكهم على أن ( مهلك ) مصدر كمرجع، أو مكان هلاكهم على أنه للمكان، أو زمان هلاكهم على أنه للزمان.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد نفي شهود الهلاك الواقع فيه، واختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم إياهم؛ قصدا للمبالغة، كأنهم قالوا: ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى إهلاكهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعلم من ذلك نفي قتلهم صالحا - عليه السلام – أيضا؛ لأن من لم يقتل أتباعه كيف يقتله، وقيل: في الكلام حذف، أي: ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، واستظهره أبو حيان ثم قال: وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح كقوله تعالى: سرابيل تقيكم الحر أي: والبرد، وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل



                                                                                                                                                                                                                                      أي: بين الخير وبيني اهـ، وفيه ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الضمير في (أهله) يعود على الولي، والمراد بأهل الولي صالح وأهله، واعترض بأنه لو أريد أهل الولي لقيل: أهلك أو أهله، ومنع بأن ذلك غير لازم، فقد قرئ: «قل للذين كفروا ستغلبون» بالخطاب والغيبة، ووجه ذلك ظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      نعم، رجوع الضمير إلى الولي خلاف الظاهر كما لا يخفى، وقرأ الجمهور «مهلك» بضم الميم وفتح اللام من (أهلك) وفيه الاحتمالات الثلاث، وقرأ أبو بكر «مهلك» بفتحهما على أنه مصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنا لصادقون عطف على (ما شهدنا) كما ذهب إليه الزجاج ، والمعنى: ونحلف وإنا لصادقون، وجوز أن تكون الواو للحال، أي: والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا، واستشكل ادعاؤهم الصدق في ذلك وهم عقلاء ينفرون عن الكذب ما أمكن، وأجيب بأن حضور الأمر غير مباشرته في العرف؛ لأنه لا يقال لمن قتل رجلا أنه حضر قتله، وإن كان الحضور لازما للمباشرة، فحلفوا على المعنى العرفي على العادة في الأيمان، وأوهموا الخصم [ ص: 214 ] أنهم أرادوا معناه اللغوي، فهم صادقون غير حانثين، وكونهم من أهل التعارف أيضا لا يضر بل يفيد فائدة تامة، وقال الزمخشري : كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا: ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما كانوا صادقين؛ لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب بأن من فعل أمرين وجحد أحدهما لم يكن في كذبه شبهة، وإنما تتم الحيلة لو فعلوا أمرا واحدا وادعي عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع، ولذا لم يختلف العلماء في أن من حلف: (لا أضرب زيدا) فضرب زيدا وعمرا كان حانثا، بخلاف من حلف: (لا أضرب زيدا وعمرا) و(لا آكل رغيفين) فأكل أحدهما، فإنه محل خلاف للعلماء في الحنث وعدمه، والحق أن تبرئتهم من الكذب - فيما ذكر - غير لازمة حتى يتكلف لها، وهم الذين كذبوا على الله تعالى ورسوله - عليه السلام - وارتكبوا ما هو أقبح من الكذب فيما ذكر، ومقصود الزمخشري تأييد ما يزعمه هو وقومه من قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل بموافقة قوم صالح عليها، ولا يكاد يتم له ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية