الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      بل ادارك علمهم في الآخرة إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره، وأصل ادارك تدارك فأدغمت التاء في الدال فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء، وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقا، (وفي الآخرة) متعلق ب"علمهم". والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء، وهي حينئذ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء وابن عطية وغيرهما، والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفني ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش، وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا، بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه، وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لاحظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادارك أسباب علمهم، والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط، وقوله تعالى: بل هم في شك منها إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التي ستقع فيها، وقوله سبحانه: بل هم منها عمون إضراب وانتقال عن وصفهم بكونهم شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عميا قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لا يكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لا محالة، فالمراد عمون عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولا أوليا، (ومنها) متعلق بعمون، قدم عليه رعاية للفواصل، ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفا على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لا يتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون ادارك بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحكام علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك على سبيل الهزء، ومآل التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ، والإضرابان من باب الترقي من الوصف بالفظيع إلى الوصف بالأفظع نحو ما تقدم وهو وجه حسن، ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذكرنا أولا.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أيضا أن يكون المراد بالادراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك، وفيه [ ص: 14 ] أن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكرماني: التدارك التتابع، والمراد بالعلم هنا الحكم والقول والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها، فنفاهم بعضهم. وشك فيها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن في الآخرة متعلق. (بادارك) . وإليه ذهب الزجاج والطبرسي، واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عيانا، وكان الظاهر يدارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: التدارك عليه من تداركت أمر فلان إذا تلافيته، ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه، وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم، والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت، ولا يخفى أن في وجه ترتيب الإضرابات الثلاث حسب ما في النظم الكريم على هذين الوجهين خفاء فتدبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي أم «تدارك». على الأصل وجعل أم بدل (بل)، وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناء على وزنه افتعل، فأدغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا فصار فيه قلب الثاني للأول كما في قولهم: اثرد وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل، وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام «بل»، وروي ذلك عن ابن عياش وعاصم والأعمش.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة. «بل أدرك». على وزن أفعل بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية أبي حيوة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن. بل آدرك » بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفا تخفيفا كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية، وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد «بل» لأن بل للإيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى: أشهدوا خلقهم أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجاز بعض المتأخرين، كما قال أبو حيان، الاستفهام بعد (بل) وشبهه بقول القائل: أخبزا أكلت، بل أماء شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني، وقرأ مجاهد «أم أدرك» جعل أم بدل (بل) وأدرك على وزن أفعل، وقرأ ابن عباس في رواية أيضا «بل أدارك» بهمزة داخلة على (ادارك) فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود أيضا بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل، وقرأ الحسن أيضا والأعرج. «بل أدرك». بهمزة، وإدغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالا، وقرأ ورش في رواية. «بل ادرك» بحذف همزة أدرك، ونقل حركتها إلى اللام، وقرأ ابن عباس أيضا. «بلى أدرك». بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي، وقرأ. «بل (آأدارك) ». بألف بين الهمزتين، فهذه عدة قراءات فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي، وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم: إن كان يلي جوابا لكلام تقدم جاز أن يستأنف بعده كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة [ ص: 15 ] فقيل لهم: بلى إيجابا لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: بل هم في شك منها بمعنى أم هم في شك منها لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: بل هم منها عمون اهـ، يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم عودل بها الهمزة، وتعقبه في البحر بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جدا، وقال بعض المحققين: ما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: بل هم في شك إلخ له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: بل هم في شك إلخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل إنهم منها عمون فهو على منوال: تحية بينهم ضرب وجيع أو رد وإنكار لشعورهم على أن الإضراب إبطالي فافهم،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية