الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر اختلاف الفقهاء في تصديق الوصي على دفع المال إلى اليتيم

قال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ والحسن بن زياد - في الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه -: إنه يصدق؛ وكذلك لو قال: أنفقت عليه في صغره؛ صدق في نفقة مثله؛ وكذلك لو قال: هلك المال؛ وهو قول سفيان الثوري ؛ وقال مالك : "لا يصدق الوصي أنه دفع المال إلى اليتيم"؛ وهو قول الشافعي ؛ قال: "لأن الذي زعم أنه دفعه إليه غير الذي ائتمنه؛ كالوكيل بدفع المال إلى غيره؛ لا يصدق إلا ببينة؛ وقال الله (تعالى): فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم .

قال أبو بكر : وليس في الأمر بالإشهاد دليل على أنه غير أمين؛ ولا مصدق فيه; لأن الإشهاد مندوب إليه في الأمانات؛ كهو في المضمونات؛ ألا ترى أنه يصح الإشهاد على رد الأمانات من الودائع؛ كما يصح في أداء المضمونات من الديون؟ فإذا ليس في الأمر بالإشهاد دلالة على أنه غير مصدق فيه إذا لم يشهد؛ فإن قيل: إذا كان مصدقا في الرد؛ فما معنى الإشهاد مع قبول قوله بغير بينة؟ قيل له: فيه ما قدمنا ذكره من ظهور أمانته؛ والاحتياط له في زوال التهمة عنه في ألا يدعى عليه بعدما قد ظهر رده؛ وفيه الاحتياط لليتيم في ألا يدعي ما يظهر كذبه فيه؛ وفيه أيضا سقوط اليمين عن الوصي إذا كانت له بينة في دفعه إليه؛ ولو لم يشهد؛ وادعى اليتيم أنه لم يدفعه؛ كان القول قول الوصي مع يمينه؛ وإذا أشهد فلا يمين عليه؛ فهذه المعاني كلها مضمنة بالإشهاد؛ وإن كان أمانة في يده؛ ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه؛ وإمساكه على وجه الأمانة؛ حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه؛ فهو بمنزلة الودائع؛ والمضاربات؛ وما جرى مجراها من الأمانات؛ فوجب أن يكون مصدقا على الرد؛ كما يصدق على رد الوديعة؛ والدليل على أنه أمانة؛ أن اليتيم لو صدقه على الهلاك لم يضمنه؛ كما أن المودع إذا صدق المودع في هلاك الوديعة لم يضمنه؛ وأما قول الشافعي : "إنه لما لم يأتمنهم الأيتام لم يصدقوا"؛ [ ص: 366 ] فقول ظاهر الاختلال؛ بعيد من معاني الفقه؛ منتقض؛ فاسد; لأنه لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب ألا يصدق القاضي إذا قال لليتيم: "قد دفعته إليك"; لأنه لم يأتمنه؛ وكذلك يلزمه أن يقول في الأب - إذا قال بعد بلوغ الصغير: "قد دفعت إليك مالك " - ألا يصدقه; لأنه لم يأتمنه؛ ويلزمه أيضا أن يوجب عليهم الضمان؛ إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك; لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه؛ وأما تشبيهه إياه بالوكيل؛ بدفع المال إلى غيره؛ فتشبيه بعيد؛ ومع ذلك فلا فارق بينهما من الوجه الذي صدقنا فيه الوصي; لأن الوكيل مصدق أيضا في براءة نفسه؛ غير مصدق في إيجاب الضمان ودفعه إلى غيره؛ وإنما لم يقبل قوله على المأمور بالدفع إليه؛ فأما في براءة نفسه فهو مصدق؛ كما صدقنا الوصي على الرد بعد البلوغ؛ وأيضا فإن الوصي في معنى من يتصرف على اليتيم بإذنه؛ ألا ترى أنه يجوز تصرفه عليه في البيع والشراء؛ كجواز تصرف أبيه؟ فإذا كان إمساك الوصي المال بائتمان الأب له عليه؛ وإذن الأب جائز على الصغير؛ صار كأنه ممسك له بعد البلوغ بإذنه؛ فلا فارق بينه وبين المودع.

التالي السابق


الخدمات العلمية