الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله (تعالى): وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ؛ الآية؛ اختلف السلف في تأويله؛ فروي عن ابن عباس رواية؛ وعن سعيد بن جبير ؛ والحسن ؛ ومجاهد ؛ وقتادة ؛ والضحاك ؛ والسدي ؛ قالوا: "هو الرجل يحضره الموت؛ [ ص: 371 ] فيقول له من يحضره: اتق الله؛ أعطهم؛ صلهم؛ برهم؛ ولو كانوا هم الذين يوصون لأحبوا أن يبقوا لأولادهم"؛ قال حبيب بن أبي ثابت : فسألت مقسما عن ذلك؛ فقال: "لا؛ ولكنه الرجل يحضره الموت؛ فيقول له من يحضره: اتق الله؛ وأمسك عليك مالك ؛ ولو كانوا ذوي قرابته لأحبوا أن يوصي لهم"؛ فتأوله الأولون على نهي الحاضرين عن الحض على الوصية؛ وتأوله مقسم على نهي من يأمره بتركها؛ وقال الحسن في رواية أخرى: "هو الرجل يكون عند الميت؛ فيقول: أوص بأكثر من الثلث من مالك "؛ وعن ابن عباس رواية أخرى أنه قال: "في ولاية مال اليتيم وحفظه؛ إن عليهم أن يعملوا فيه؛ ويقولوا بمثل ما يجب أن يعمل ويقال في أموال أيتامهم؛ وضعاف ذريتهم بعد موتهم"؛ وجائز أن تكون هذه المعاني التي تأول السلف عليها الآية مرادة بها؛ إلا أن ما نهي عنه من الأمر بالوصية؛ أن النهي عنها إذا قصد المشير بذلك إلى الإضرار بالورثة؛ أو بالموصى لهم مما لا يرضاه هو لنفسه لو كان مكان هؤلاء؛ وذلك بأن يكون المريض قليل المال؛ له ذرية ضعفاء؛ فيأمره الذي يحضره باستغراق الثلث للوصية؛ ولو كان هو مكانه لم يرض بذلك وصية له لأجل ورثته؛ وهذا يدل على أن المستحب له إذا كان له ورثة ضعفاء؛ وهو قليل المال ؛ ألا يوصي بشيء؛ ويتركه لهم؛ أو يوصي لهم بأقل من الثلث؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم – لسعد - حين قال: أوصي بجميع مالي -؛ فقال: "لا"؛ إلى أن رده إلى الثلث؛ فقال: "الثلث؛ والثلث كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"؛ فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الورثة إذا كانوا فقراء فترك الوصية ليستغنوا به أفضل من فعلها؛ وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يقول: "الأفضل لمن له مال كثير الوصية بما يريد أن يوصي به؛ على وجه القربة؛ من ثلث ماله؛ والأفضل لمن ليس له مال كثير ألا يوصي منه بشيء؛ وأن يبقيه لورثته"؛ والنهي منصرف أيضا إلى من يأمره من الحاضرين بأن يوصي بأكثر من الثلث؛ على ما روي عن الحسن; لأن ذلك لا يجوز أن يفعله؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والثلث كثير"؛ ولنهيه سعدا عن الوصية بأكثر من الثلث؛ وجائز أن يكون ما قاله مقسم مرادا؛ بأن يقول الحاضر: لا توص بشيء؛ ولو كان من ذوي قرابته لأحب أن يوصي له؛ فيشير عليه بما لا يرضاه لنفسه؛ وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى ذلك؛ حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم قال: حدثنا هدبة قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة ؛ عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب [ ص: 372 ] لنفسه من الخير"؛ وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال: حدثنا سهل بن عثمان قال: حدثنا زياد بن عبد الله ؛ عن ليث ؛ عن طلحة ؛ عن خيثمة ؛ عن عبد الله بن عمر ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سره أن يزحزح عن النار؛ ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله؛ وأن محمدا رسول الله؛ ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتي إليه".

قال أبو بكر : فهذا معنى قوله (تعالى): وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ؛ فنهاه - عز وجل - أن يشير على غيره؛ ويأمره بما لا يرضاه لنفسه؛ ولأهله؛ ولورثته؛ وأمر الله (تعالى) بأن يقول الحاضرون قولا سديدا؛ وهو العدل؛ والحق الذي لا خلل فيه؛ ولا فساد؛ في إجحاف بوارث؛ أو حرمان لذي قرابة.

التالي السابق


الخدمات العلمية