الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل منزلة الإيثار

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإيثار . قال الله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .

فالإيثار ضد الشح . فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه . والشحيح : حريص على ما ليس بيده . فإذا حصل بيده شيء شح عليه . وبخل بإخراجه . فالبخل ثمرة الشح . والشح يأمر بالبخل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم والشح . فإن الشح أهلك من كان قبلكم . أمرهم بالبخل فبخلوا . وأمرهم بالقطيعة فقطعوا .

فالبخيل : من أجاب داعي الشح . والمؤثر : من أجاب داعي الجود .

كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء . وهو أفضل من سخاء البذل .

قال عبد الله بن المبارك : سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل .

[ ص: 278 ] وهذا المنزل : هو منزل الجود والسخاء والإحسان .

وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه ، فإن المراتب ثلاثة .

إحداها : أن لا ينقصه البذل ، ولا يصعب عليه . فهو منزلة السخاء .

الثانية : أن يعطي الأكثر ، ويبقي له شيئا ، أو يبقي مثل ما أعطى . فهو الجود .

الثالثة : أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه ، وهو مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه . وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم : إنكم ستلقون بعدي أثرة . فاصبروا حتى تلقوني على الحوض والأنصار : هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فوصفهم بأعلى مراتب السخاء ، وكان ذلك فيهم معروفا .

وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين . حتى إنه مرض مرة ، فاستبطأ إخوانه في العيادة . فسأل عنهم ؟ فقالوا : إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين . فقال : أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة . ثم أمر مناديا ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل . فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه ، لكثرة من عاده .

وقالوا له يوما : هل رأيت أسخى منك ؟ قال : نعم . نزلنا بالبادية على امرأة . فحضر زوجها . فقالت : إنه نزل بك ضيفان . فجاء بناقة فنحرها ، وقال : شأنكم ؟ فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها . فقلنا : ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير . فقال : إني لا أطعم ضيفاني البائت . فبقينا عنده يومين أو ثلاثة ، والسماء تمطر . وهو يفعل ذلك . فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته ، وقلنا للمرأة : اعتذري لنا إليه . ومضينا . فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا : قفوا . أيها الركب اللئام . أعطيتموني ثمن قراي ؟ ثم إنه لحقنا ، وقال : لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي . فأخذناه وانصرف .

فتأمل سر التقدير ، حيث قدر الحكيم الخبير - سبحانه - استئثار الناس على الأنصار بالدنيا - وهم أهل الإيثار - ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس . فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من [ ص: 279 ] استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك - مع كونك من أهل الإيثار - فاعلم أنه لخير يراد بك . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية