الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 45 ] مدنية في قول الجميع ، وهي ثلاث عشرة آية .

الممتحنة ( بكسر الحاء ) أي المختبرة ، أضيف الفعل إليها مجازا ، كما سميت سورة " التوبة " المبعثرة والفاضحة ; لما كشفت من عيوب المنافقين . ومن قال في هذه السورة : الممتحنة ( بفتح الحاء ) فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، قال الله تعالى : فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن الآية . وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن .

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء عدى اتخذ إلى مفعولين وهما عدوكم أولياء . والعدو فعول من عدا ، كعفو من عفا . ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجماعة إيقاعه على الواحد .

وفي هذه الآية سبع مسائل :

[ ص: 46 ] الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن علي رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : " ائتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها " ، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا ، فإذا نحن بالمرأة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب . فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها . فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة . . . إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا حاطب ، ما هذا ؟ " قال : لا تعجل علي يا رسول الله ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش - قال سفيان : كان حليفا لهم ، ولم يكن من أنفسها - وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق " . فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال : " إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " . فأنزل الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء . قيل : اسم المرأة سارة من موالي قريش . وكان في الكتاب : " أما بعد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ، وأنجز له موعده فيكم ، فإن الله وليه وناصره . ذكره بعض المفسرين . وذكر القشيري والثعلبي : أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن ، وكان له حلف بمكة في بني أسد بن عبد العزى رهط الزبير بن العوام . وقيل : كان حليفا للزبير بن العوام ، فقدمت من مكة سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف إلى المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة . وقيل : كان هذا في زمن الحديبية ; فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمهاجرة جئت يا سارة ؟ " . فقالت : لا . قال : " أمسلمة جئت ؟ " قالت : لا . قال : " فما جاء بك ؟ " قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهب الموالي - تعني قتلوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ; فقال عليه الصلاة والسلام : " فأين أنت عن شباب أهل مكة " وكانت مغنية ، قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر . فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ; فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة ، وأتاها حاطب فقال : أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة . وكتب في الكتاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم . فخرجت سارة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليا والزبير وأبا مرثد الغنوي . وفي رواية : عليا والزبير والمقداد . وفي رواية : أرسل عليا وعمار بن ياسر . وفي رواية : عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد - وكانوا كلهم فرسانا - وقال لهم : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها وخلوا سبيلها ، فإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها " فأدركوها في ذلك المكان ، فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت ما معها كتاب ، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا ، فهموا بالرجوع فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذبنا ! وسل سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلا والله لأجردنك ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها - وفي رواية من حجزتها - فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل إلى حاطب فقال : " هل تعرف الكتاب ؟ " قال : نعم . وذكر الحديث بنحو ما تقدم . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم .

الثانية : السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار . وقد مضى ذلك في غير موضع . من ذلك قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم . يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . ومثله كثير . وذكر أن حاطبا لما سمع يا أيها الذين آمنوا غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان .

الثالثة : قوله تعالى : تلقون إليهم بالمودة يعني بالظاهر ; لأن قلب حاطب كان سليما ; بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : " أما صاحبكم فقد صدق " وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده . والباء في بالمودة زائدة ; كما تقول : قرأت السورة وقرأت بالسورة ، ورميت إليه ما في نفسي وبما في نفسي . ويجوز أن تكون ثابتة على أن مفعول تلقون [ ص: 48 ] محذوف ; معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم . وكذلك : تسرون إليهم بالمودة أي بسبب المودة . وقال الفراء : تلقون إليهم بالمودة من صلة أولياء ، ودخول الباء في المودة وخروجها سواء . ويجوز أن تتعلق ب لا تتخذوا حالا من ضميره . وب أولياء صفة له ، ويجوز أن تكون استئنافا . ومعنى تلقون إليهم بالمودة تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم ; وقاله الزجاج .

الرابعة : من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي ، واعتقاده على ذلك سليم ; كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين .

الخامسة : إذا قلنا لا يكون بذلك كافرا فهل يقتل بذلك حدا أم لا ؟ اختلف الناس فيه ; فقال مالك وابن القاسم وأشهب : يجتهد في ذلك الإمام . وقال عبد الملك : إذا كانت عادته تلك قتل لأنه جاسوس ، وقد قال مالك بقتل الجاسوس - وهو صحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض . ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا لأن حاطبا أخذ في أول فعله . والله أعلم .

السادسة : فإن كان الجاسوس كافرا ، فقال الأوزاعي : يكون نقضا لعهده . وقال أصبغ : الجاسوس الحربي يقتل ، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان . وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعين للمشركين اسمه فرات بن حيان ، فأمر به أن يقتل ; فصاح : يا معشر الأنصار ، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ! فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فخلى سبيله . ثم قال : " إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان " . وقوله : " وقد كفروا " حال ، إما من : لا تتخذوا ، وإما من " تلقون " ؛ أي لا تتولوهم أو توادوهم ، وهذه حالهم . وقرأ الجحدري " لما جاءكم " أي كفروا لأجل ما جاءكم من الحق .

السابعة : قوله تعالى : يخرجون الرسول استئناف كلام كالتفسير لكفرهم وعتوهم ، أو حال من كفروا . وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم تعليل ل يخرجون ؛ المعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله أي لأجل إيمانكم بالله . قال [ ص: 49 ] ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي . وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تلقوا إليهم بالمودة .

قيل : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي شرط وجوابه مقدم . والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء . ونصب جهادا وابتغاء ؛ لأنه مفعول . وقوله : تسرون إليهم بالمودة بدل من تلقون ومبين عنه . والأفعال تبدل من الأفعال ، كما قال تعالى : ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب . وأنشد سيبويه :

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

وقيل : هو على تقدير أنتم تسرون إليهم بالمودة ، فيكون استئنافا . وهذا كله معاتبة لحاطب . وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه ، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه . كما قال :

أعاتب ذا المودة من صديق     إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود     ويبقى الود ما بقي العتاب

ومعنى بالمودة أي بالنصيحة في الكتاب إليهم . والباء زائدة كما ذكرنا ، أو ثابتة غير زائدة .

قوله تعالى : وأنا أعلم بما أخفيتم : أضمرتم ، وما أعلنتم : أظهرتم . والباء في بما زائدة ; يقال : علمت كذا ، وعلمت بكذا . وقيل : وأنا أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون ، فحذف من كل أحد . كما يقال : فلان أعلم وأفضل من غيره . وقال ابن عباس : وأنا أعلم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد .

ومن يفعله منكم أي من يسر إليهم ويكاتبهم منكم .

فقد ضل سواء السبيل أي أخطأ قصد الطريق .

التالي السابق


الخدمات العلمية