الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الوصية بجميع المال إذا لم يكن وارث قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد : " إذا لم يكن له وارث فأوصى بجميع ماله جاز " وهو قول شريك بن عبد الله . وقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح : " لا تجوز وصيته إلا من الثلث " .

قال أبو بكر : قد بينا دلالة قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وأنهم كانوا يتوارثون بالحلف ، وهو أن يحالفه على أنه إن مات ورثه ما يسمي له من ميراثه من ثلث أو أكثر ، وقد كان ذلك حكما ثابتا في صدر الإسلام وفرضه الله تعالى بقوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ثم أنزل الله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى : [ ص: 34 ] يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فجعل ذوي الأرحام أولى من الحلفاء ، ولم يبطل بذلك ميراث الحلفاء أصلا بل جعل ذوي الأنساب أولى منهم كما جعل الابن أولى من الأخ .

فإذا لم يكن ذوو الأنساب جاز له أن يجعل ماله على أصل ما كان عليه حكم التوارث في الحلف . وأيضا فإن الله تعالى أوجب سهام المواريث بعد الوصية بقوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين وقال : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقد بينا أن ظاهر قوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين يقتضي جواز الوصية بجميع المال ، لولا قيام دلالة الإجماع والسنة على منع ذلك ووجوب الاقتصار بها على الثلث وإيجاب نصيب الرجال والنساء من الأقربين ، فمتى عدم من وجب به تخصيص الوصية في بعض المال وجب استعمال اللفظ في جواز الوصية بجميع المال على ظاهره ومقتضاه ؛ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد : إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فأخبر أن منع الوصية بأكثر من الثلث إنما هو لحق الورثة .

ويدل عليه حديث الشعبي وغيره عن عمرو بن شرحبيل قال : قال عبد الله بن مسعود : " ليس من حي من العرب أحرى أن يموت الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان ، فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب " ، ولا يعلم له مخالف من الصحابة وأيضا فإنه لا يخلو من لا وارث له إذا مات من أن يستحق المسلمون ماله من جهة الميراث أو من جهة أنه مال لا مالك له فيضعه الإمام حيث يرى ، فلما جاز أن يستحقه الرجل مع ابنه ومع أبيه والبعيد عن القريب علمنا أنه غير مستحق لهم على وجه الميراث ؛ لأن الأب والجد لا يجتمعان في استحقاق ميراث واحد من جهة الأبوة . وأيضا لو كان ميراثا لم يجز حرمان واحد منهم ؛ لأن سبيل الميراث أن لا يخص به بعض الورثة دون بعض وأيضا لو كان ميراثا لوجب أن يكون لو كان الميت رجلا من همدان ولا يعرف له وارث أن يستحق ميراثه أهل قبيلته ؛ لأنهم أقرب إليه من غيرهم ، فلما كان إنما يستحقه بيت المال للمسلمين وللإمام أن يصرفه إلى من شاء من الناس ممن يراه أهلا له ، دل ذلك على أن المسلمين لا يأخذونه ميراثا ، وإذا لم يأخذوه ميراثا وإنما كان للإمام صرفه إلى حيث يرى ؛ لأنه لا مالك له ، فمالكه أولى بصرفه إلى من يرى .

ومن جهة أخرى أنهم إذا لم يأخذوه ميراثا أشبه الثلث الذي يوصي به الميت [ ص: 35 ] ولا ميراث فيه ، فله أن يصرفه إلى من شاء ، فكذلك بقية المال إذا لم يستحقه الوارث كان له صرفه إلى من شاء ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا أيوب قال : سمعت نافعا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حق امرئ مسلم له مال يوصي فيه تمر عليه الليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة فلم يفرق بين الوصية ببعض المال أو بجميعه ، وظاهره يقتضي جواز الوصية بجميع المال ؛ وقد قامت الدلالة على وجوب الاقتصار على بعضه إذا كان له وارث ، فإذا لم يكن له وارث فهو على ظاهر مقتضاه في جوازها بالجميع ؛ والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية