الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 372 ] 619

ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة

ذكر خروج طائفة من قفجاق إلى أذربيجان وما فعلوه بالكرج وما كان منهم

في هذه السنة اجتمع طائفة كثيرة من القفجاق وفارقوا بلادهم لما استولى عليها التتر ، وساروا إلى دربند شروان ، وأرسلوا إلى صاحبه واسمه رشيد ، وقالوا له : إن التتر قد ملكوا بلادنا ، ونهبوا أموالنا ، وقد قصدناك لنقيم في بلادك ، ونحن مماليك لك ، ونفتح البلاد لك ، وتكون أنت سلطاننا فمنعهم من ذلك وخافهم ، فأعادوا الرسالة إليه : إننا نحن نرهن عندك أولادنا ونساءنا على الطاعة والخدمة لك ، والانقياد لحكمك ; فلم يجبهم إلى ما طلبوا ، فسألوه أن يمكنهم ليتزودوا من بلده ، تدخل عشرة عشرة ، فإذا اشتروا ما يحتاجون إليه فارقوا بلاده ، فأجابهم إلى ذلك ، فصاروا يدخلون متفرقين ، ويشترون ما يريدون ، ويخرجون .

ثم إن بعض كبرائهم والمقدمين منهم جاء إلى رشيد وقال : إنني كنت في خدمة السلطان خوارزم شاه ، وأنا مسلم ، والدين يحملني على نصحك ، اعلم أن قفجاق أعداؤك ، ويريدون الغدر بك ، فلا تمكنهم من المقام ببلادك ، فأعطني عسكرا حتى أقاتلهم وأخرجهم من البلاد . ففعل ذلك ، وسلم إليه طائفة من عسكره ، وأعطاهم ما يحتاجون إليه من سلاح وغيره ، فساروا معه ، فأوقعوا بطائفة من قفجاق ، فقتل منهم جماعة ونهب منهم ، فلم يتحرك قفجاق لقتال بل قالوا : نحن مماليك الملك شروان [ ص: 373 ] شاه رشيد ، ولولا ذلك لقاتلنا عسكره ، فلما عاد ذلك المقدم القفجاقي ومعه عسكر رشيد سالمين ، فرح بهم

ثم إن قفجاق فارقوا موضعهم ، فساروا ثلاثة أيام ، فقال ذلك القفجاقي لرشيد : أريد عسكرا أتبعهم به وأغنم ما معهم فأمر له من العسكر بما أراد ، فسار يقفو أثر القفجاق ، فأوقع بأواخرهم ، وغنم منهم .

وقصده جمع كثير من قفجاق من الرجال والنساء يبكون ، وقد جزوا شعورهم ، ومعهم تابوت ، وهم محيطون به يبكون حوله ، وقالوا له : إن صديقك فلانا قد مات ، وقد أوصى أن نحمله إليك فتدفنه في أي موضع شئت ، ونكون نحن عندك ، فحمله معه والذين يبكون عليه أيضا ، وعاد إلى شروان شاه رشيد ، وأعلمه أن الميت صديق له وقد حمله معه ، وقد طلب أهله أن يكونوا عنده في خدمته ، فأمر أن يدخلوا البلد ، وأنزلهم فيه .

فكان أولئك الجماعة يسيرون مع ذلك المقدم ، ويركبون بركوبه ، ويصعدون معه إلى القلعة التي لرشيد ، ويقعدون عنده ، ويشربون معه هم ونساؤهم ، فأحب رشيد امرأة ذلك الرجل الذي قيل له : إنه ميت ، ولم يكن مات ، وإنما فعلوا هكذا مكيدة حتى دخلوا البلد ، والذي أظهروا موته معهم في المجلس ، ولا يعرفه رشيد ، وهو من أكبر مقدمي قفجاق ، فبقوا كذلك عدة أيام ، فكل يوم يجيء جماعة من قفجاق متفرقين ، فاجتمع بالقلعة منهم جماعة ، وأردوا قبض رشيد وملك بلاده ، ففطن لذلك ، فخرج عن القلعة من باب السر ، وهرب ومضى إلى شروان . وملك قفجاق وقالوا لأهل البلد وأعادوا باقي أصحابهم إليهم وأخذوا السلاح الذي في البلد جميعه واستولوا على الأموال التي كانت لرشيد في القلعة ، ورحلوا عن القلعة ، وقصدوا قبلة ، وهي للكرج ، فنزلوا عليها وحصروها .

فلما سمع رشيد بمفارقتهم القلعة رجع إليها وملكها ، وقتل من بها من قفجاق ، ولم يشعر القفجاق الذين عند قبلة بذلك ، فأرسلوا طائفة منهم إلى القلعة ، فقتلهم رشيد أيضا ، فبلغ الخبر إلى القفجاق ، فعادوا إلى دربند ، فلم يكن لهم في القلعة طمع .

[ ص: 374 ] وكان صاحب قبلة ، لما كانوا يحصرونه ، قد أرسل إليهم ، وقال لهم : أنا أرسل إلى ملك الكرج حتى يرسل إليكم الخلع والأموال ، ونجتمع نحن وأنتم ونملك البلاد ، فكفوا عن نهب ولايته أياما ، ثم إنهم مدوا أيديهم بالنهب والفساد ، ونهبوا بلاد قبلة جميعها ، وساروا إلى قرب كنجة من بلاد أران ، وهي للمسلمين ، فنزلوا هناك ، فأرسل إليهم الأمير بكنجة ، وهو مملوك لأوزبك صاحب أذربيجان ، اسمه كوشخرة ، عسكرا فمنعهم من الوصول إلى بلاده ، وسير رسولا إليهم يقول لهم : غدرتم بصاحب شروان وأخذتم قلعته ، وغدرتم بصاحب قبلة ونهبتم بلاده ، فما يثق بكم أحد ، فأجابوا : إننا ما جئنا إلا قصدا لخدمة سلطانكم ، فمنعنا شروان شاه عنكم ، فلهذا قصدنا بلاده ، وأخذنا قلعته ، ثم تركناها من غير خوف ، وأما صاحب قبلة فهو عدوكم وعدونا ، ولو أردنا أن نكون عند الكرج لما كنا جعلنا طريقنا على دربند شروان ، فإنه أصعب وأشق وأبعد ، وكنا جئنا إلى بلادهم على عادتنا ، ونحن نوجه الرهائن إليكم .

فلما سمع كوشخرة هذا سار إليهم ، فسمع به قفجاق فركب أميران منهم ، هما مقدماهم ، في نفر يسير وجاءوا إليه ولقوه وخدموه ، وقالوا له : قد أتيناك جريدة في قلة من العدد لتعلم أننا ما قصدنا إلا الوفاء والخدمة لسلطانكم ، فأمرهم كوشخرة بالرحيل والنزول عند كنجة ، وتزوج ابنة أحدهم وأرسل إلى صاحبه أوزبك يعرفه حالهم ، فأمر لهم بالخلع والنزول بجبل كيلكون ، ففعلوا ذلك .

وخافهم الكرج ، فجمعوا لهم ليكبسوهم ، فوصل الخبر بذلك إلى كوشخرة أمير كنجة ، فأخبر قفجاق ، وأمرهم بالعود والنزول عند كنجة ، فعادوا ونزلوا عندها ، وسار أمير من أمراء قفجاق في جمع منهم إلى الكرج ، فكبسهم ، وقتل كثيرا منهم ، وهزمهم ، وغنم ما معهم ، وأكثر القتل فيهم والأسر منهم ، وتمت الهزيمة عليهم ، [ ص: 375 ] ورجع قفجاق إلى جبل كيلكون ، فنزلوا فيه كما كانوا .

فلما نزلوا أراد الأمير الآخر من أمراء قفجاق أن يؤثر في الكرج مثل ما فعل صاحبه ، فسمع كوشخرة ، فأرسل إليه ينهاه عن الحركة إلى أن يكشف له خبر الكرج ، فلم يقف ، فسار إلى بلادهم في طائفته ، ونهب وخرب وأخذ الغنائم ، فسار الكرج في طريق يعرفونها وسبقوه ، فلما وصل إليهم قاتلوه ، وحملوا عليه وعلى من معه على غرة وغفلة ، فوضعوا السيف فيهم ، وأكثروا القتل فيهم ، واستنقذوا الغنائم منه ، فعاد هو ومن معه على أقبح حالة ، وقصدوا برذعة .

وأرسلوا إلى كوشخرة يطلبون أن يحضر عندهم هو بنفسه ، وعسكره ليقصدوا الكرج فيأخذوا بثأرهم منهم ، فلم يفعل ، وأخافهم ، وقال : أنتم خالفتموني ، وعملتم برأيكم ، فلا أنجدكم بفارس واحد ; فأرسلوا يطلبون الرهائن الذين لهم ، فلم يعطهم ، فاجتمعوا وأخذوا كثيرا من المسلمين عوضا من الرهائن ، فثار بهم المسلمون من أهل البلاد ، وقاتلوهم ، فقتلوا منهم جماعة كثيرة ، فخافوا ، وساروا نحو شروان ، وجازوا إلى بلد اللكز ، فطمع الناس فيهم ; المسلمون والكرج واللكز وغيرهم ، فأفنوهم قتلا ونهبا وأسرا وسبيا ، بحيث إن المملوك منهم كان يباع في دربند شروان بالثمن البخس .

التالي السابق


الخدمات العلمية