الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان النازع إلى جهتين] والمعالج لأمرين متباينين كأنه يتصرف بقلبين، أكد أمر الإخلاص في جعل الهم هما واحدا فيما يكون من أمور الدين والدنيا، وفي المظاهرة والتبني وكل ما شابهها بضرب المثل بالقلبين - كما قال الزهري، فقال معللا لما قبله بما فيه من الإشارة إلى أن الآدمي مع قطع النظر عن رتبة النبوة موضع لخفاء الأمور عليه: ما جعل الله أي الذي له الحكمة البالغة، والعظمة الباهرة، وليس الجعل إلا له ولا أمر لغيره لرجل أي لأحد من بني آدم الذين هم أشرف الخلائق من نبي ولا غيره، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسما وفهما فيفهم غيره من باب الأولى; وأشار إلى التأكيد [ ص: 284 ] بقوله: من قلبين وأكد الحقيقة وقررها، وجلاها وصورها لما قد يظن الإنسان من أنه يقدر على صرف النفس إلى الأمور المتخالفة كما يفعل المنافق، بقوله: في جوفه أي حتى يتمكن من أن ينزع بكل قلب إلى جهة غير الجهة التي نزع إليها القلب الآخر لأن ذلك مود إلى خراب البدن لأن القلب مدبره بإذن الله تعالى، واستقلال كل بالتدبير يؤدي إلى الفساد كما مضى في دليل التمانع سواء; قال الرازي في اللوامع: القلب كالمرآة مهما حوذي به جانب القدس أعرض عن جانب الحس، ومهما حوذي به جانب الحس أعرض عن جانب القدس، فلا يجتمع الإقبال على الله وعلى ما سواه. انتهى. وحاصل ذلك أنه تمهيد لأن التوزع والشرك لا خير فيه، وأن مدبر الملك واحد كما أن البدن قلب واحد، فلا التفاف إلى غيره، وأن الدين ليس بالتشهي وجعل الجاعلين، وإنما هو بجعله سبحانه، فإنه العالم بالأمور على ما هي عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان كل من المظاهرة والتبني نازعا إلى جهتين متنافيتين، وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار طلاقا مؤبدا لا رجعة فيه - كما نقله ابن الملقن في عمدة المنهاج عن صاحب الحاوي، وكان المخاطبون قد أعلاهم الوعظ السابق إلى التأهل للخطاب، لفت سبحانه القول إليه على قراءة الغيب [في "يعلمون" لأبي عمرو] فقال: وما جعل أزواجكم [ ص: 285 ] أي بما أباح لكم من الاستمتاع بهن من جهة الزوجية; ثم أشار إلى الجهة الأخرى بقوله: اللائي تظاهرون منهن أي [كما] يقول الإنسان للواحدة منهن: أنت علي كظهر أمي أمهاتكم بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها، لأنه لا يكون لرجل أمان، ولو جعل ذلك لضاق الأمر، واتسع الخرق، وامتنع الرتق وما جعل أدعياءكم بما جعل لهم من النسبة والانتساب إلى غيركم أبناءكم بما جعلتم لهم من الانتساب إليكم ليحل لهم إرثكم، وتحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء، ولا يكون لابن أبوان، ولو جعل ذلك لضاعت الأنساب، وعم الارتياب، وانقلب كثير من الحقائق أي انقلاب، فانفتح بذلك من الفساد أبواب أي أبواب، فليس زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي الذي تبنيته ابنا لك أيها النبي بتبنيك له جزاء [له] باختياره لك على أبيه وأهله، وهذا توطئة لما يأتي من قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش مطلقة زيد مولى رسول الله [ ص: 286 ] صلى الله عليه وسلم [فإنه صلى الله عليه وسلم] لما تزوجها قال المنافقون كما حكاه البغوي وغيره: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، وبين أن التبني إنما هو مجاز، وأن المحرم إنما هو زوجة الابن الحقيقي [و] ما ألحق به من الرضاع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تبنى زيدا لقصة مذكورة في السيرة، روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادعوهم لآبائهم .

                                                                                                                                                                                                                                      لما أبطل [هذا] سبحانه، استأنف الإخبار عما مضى من عملهم فيه فقال: ذلكم أي القول البعيد عن الحقيقة، وأكد هذا بقوله: قولكم بأفواهكم أي لا حقيقة له وراء القول وتحريك الفم [من غير مطابقة قلوبكم،] فإن كل من يقول ذلك لا يعتقده، [لأن من كان له فم كان محتاجا، ومن كان محتاجا كان معرضا للنقائص كان معرضا للأوهام، ومن غلبت عليه الأوهام كان في كلامه الباطل] والله أي المحيط علمه وقدرته [وله جميع صفات الكمال] يقول الحق أي الكامل [ ص: 287 ] في حقيته، الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه، فلا قدرة لأحد على نقضه فإن أخبر عن شيء فهو كما قال، ليس بين الخبر والواقع من ذلك المخبر عنه شيء من المخالفة، وإن أتى بقياس فرع على أصل لم يستطع أحد إبداء فرق، [فإن أقواله سبحانه سابقة على الواقع لأنها مصدرة فيها بكون، فإذا قال قولا وجد مضمونه مطابقا لذلك القول، فإذا طبقت بينهما كانا سواء، فكان ذلك المضمون ثابتا كما كان ذلك الواقع ثابتا، فكان حقا، هكذا أقواله على الدوام، لأنه منزه سبحانه عن النقائص فلا جارحة ثم ليكون بينها وبين معد القول مخالفة من فم أو غيره وعن كل ما يقتضي حاجة، فالآية من الاحتباك: ذكر الفم أولا دليلا على نفيه ثانيا والحق ثانيا دليلا على ضده الباطل أولا، وسر ذلك أنه ذكر ما يدل على النقص في حقنا، وعلى الكمال في حقه، ودل على التنزيه بالإشارة ليبين فهم الفهماء وعلم العلماء] وهو أي وحده من حيث قوله الحق يهدي السبيل أي الكامل الذي من شأنه أن يوصل إلى المطلوب إن ضل أحد في فعل أو قول، فلا تعولوا على سواء ولا تلتفتوا أصلا إلى غيره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية