الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المقصود كما تقدم تغليظ الحجاب على ذوات الخدور، وكان قد ذكر في هذه السورة خصائص وتغيير أحكام للنبي صلى الله [ ص: 403 ] عليه وسلم ولأزواجه رضي الله عنهن ولغيرهم، كان ربما ظن أن الحجاب تغير أو شيء منه بالنسبة إلى الدخول أو غيره، فاستثنى من عمه النهي السابق عن الدخول على وجه يعم جميع النساء على نحو ما تقدم في سورة النور فقال: لا جناح أي إثم عليهن في آبائهن دخولا وخلوة من غير حجاب، والعم والخال وأبو الزوج بمصير الزوجين كالشيء الواحد بمنزلة الوالد ولا أبنائهن أي من البطن أو الرضاعة، وابن الزوج بمنزلة الولد، وترك ذكرهم يفهم أن الورع الحجاب عنهم ولا إخوانهن لأن عارهن عارهم ولا أبناء إخوانهن فإنهن بمنزلة آبائهم ولا أبناء أخواتهن فإنهن بمنزلة أمهاتهم ولا نسائهن أي المسلمات القربى منهن والبعدى بمنزلة واحدة، وأما الكافرات فهن بمنزلة الأجانب من الرجال ولا ما ملكت أيمانهن لأنهم لما لهن عليهم من السلطان تبعد منهم الريبة هيبة لهن مع مشقة الاحتجاب عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الريبة ليست مقطوعا بنفيها، وكانت من جهة النساء أكثر، لأنه لا يكاد رجل يتعرض إلا لمن ظن بها الإجابة لما يرى من [ ص: 404 ] مخايلها أو مخايل أشكالها، أقبل عليهن بالخطاب لأنه أوقع في النفس، فقال آمرا عاطفا على ما تقديره: فأظهرن على من شئتن من هؤلاء: واتقين الله أي الذي لا أعظم منه، فلا تقربن شيئا مما يكرهه، وطوى ما عطف عليه الأمر بالتقوى بعد أن ساق نفي الجناح في أسلوب الغيبة، وأبرز الأمر بها وجعله في أسلوب الخطاب إيذانا بأن الورع ترك الظهور على أحد غير من يملك التمتع، فإن دعت حاجة كان مع الظهور حجاب كثيف من الاحتشام والأدب التام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الخوف لا يعظم إلا ممن كان حاضرا مطلقا، قال معللا مؤكدا تنبيها على أن فعل من يتهاون في شيء من أوامره فعل من لا يتقي، ومن لا يتقي كمن يظن أنه سبحانه غير مطلع عليه: إن الله أي العظيم الشأن كان أزلا وأبدا على كل شيء من أفعالكن وغيرها، ولمزيد الاحتياط والورع في ذلك [عبر] بقوله: شهيدا أي لا يغيب عنه شيء وإن دق، فهو مطلع عليكن حال الخلوة ممن ذكر، كما هو مطلع على [غير] ذلك فليحذره كل أحد [في] حال الخلوة كما يحذره في حال الجلوة، فيا لها من عظمة باهرة، وسطوة ظاهرة قاهرة، يحق لكل أحد أن يبكي منها الدماء فضلا عن الدموع، وأن تمنعه مريح القرار ولذيذ الهجوع، روى البخاري [ ص: 405 ] عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أستأذن علي أفلح أخو أبي القعيس رضي الله عنه بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتى استأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإن أخاه [أبا] القعيس ليس هو أرضعني [و] لكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، [فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس] استأذن فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يمنعك؟ قلت: يا رسول الله! إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك، قال عروة: فلذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول: حرموا من الرضاعة ما تحرموا من النسب" .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية