الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قال: (فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفوا قولكم الذي به تقولون؟ وديانتكم التي بها تدينون؟ [ ص: 592 ]

قيل له: قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المناهج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين. فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين.

وجملة قولنا: أنا نقر بالله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما روى الثقات عن رسول [ ص: 593 ] الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرد من ذلك شيئا، وأن الله عز وجل واحد أحد فرد صمد لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال: الرحمن على العرش استوى [طه: 5 ] وأن له وجها، كما قال عز وجل ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 27 ]، وأن له يدين، كما قال عز وجل: بل يداه مبسوطتان [المائدة: 64 ] وقال سبحانه وتعالى: لما خلقت بيدي [ص: 75 ] وأن له عينين بلا كيف: كما قال عز وجل: تجري بأعيننا [القمر: 14 ] وأن من زعم أن اسم الله تعالى غيره كان ضالا، وأن لله تعالى علما، كما قال تعالى: أنزله بعلمه [النساء: 166 ] وقال سبحانه: [ ص: 594 ] وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه [فاطر: 11 ] ونثبت لله قدرة وقوة كما قال تعالى: أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة [فصلت: 15 ] ونثبت لله تعالى السمع والبصر، ولا ننفي ذلك عنه كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونقول إن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن، كما قد قال سبحانه وتعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل: 40 ] وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى ) وذكر الكلام في مسائل القدر، وخلق الأفعال.

إلى أن قال: (ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا. [ ص: 595 ] وندين بأن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونقول: إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله عز وجل: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين: 15 ] وأن موسى سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا، فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا. ونرى ألا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج، وزعموا أنهم بذلك كافرون. ونقول إن من عمل كبيرة [من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة ] وما أشبهها مستحلا لها إذا كان غير معتقد لتحريمها كان كافرا، ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام [ ص: 596 ] إيمانا، وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ ص: 597 ] وندين بأن لا ننزل أحدا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين. ونقول: إن الله عز وجل يخرج من النار قوما بعدما امتحشوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر، وبأن الميزان حق، والحوض حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد بالموقف ويحاسب [ ص: 598 ] المذنبين، وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وندين بحب السلف رضي الله عنهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونثني عليهم بما أثنى الله تعالى عليهم ونتولاهم، ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الله سبحانه وتعالى أعز به الإسلام والدين، وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، ثم عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، ثم عثمان نضر الله وجهه [وأن [ ص: 599 ] الذين ] قاتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين الله تعالى أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون، فضلاء لا يوازنهم في الفضل غيرهم.

ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: "هل من سائل، هل من مستغفر" وسائر ما أثبتوه ونقلوه: خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله تعالى بدعة لم يأذن الله تعالى بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول إن الله عز وجل يجيء يوم [ ص: 600 ] القيامة. كما قال تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22 ] وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف شاء، كما قال تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق: 16 ] وكما قال عز وجل: ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى [النجم: 8، 9 ] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وفاجر وكذلك سائر الصلوات والجماعات، كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج، ونرى المسح على [ ص: 601 ] الخفين في الحضر والسفر خلافا لقول من أنكر ذلك. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى رأي الخوارج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة. وندين بترك الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما للمدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج، ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام، ونقول إن لذلك تفسيرا، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم، ونؤمن بأن الله تعالى ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرا، وأن السحر كائن موجود في الدنيا. وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم، وتوارثهم. ونقر أن الجنة والنار [ ص: 602 ] مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل، وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه، خلافا لقول المعتزلة والجهمية ، كما قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس [البقرة: 275 ] وكما قال: من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس [الناس: 4-6 ] ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم، وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك، وندين بأن الله تعالى [ ص: 603 ] [ ص: 604 ] يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية لبدعة، ومجانبة أهل الأهواء ). وقال: (وسنحتج لما ذكرنا من قولنا ومما بقي منه مما لم نذكره بابا، بابا، وشيئا شيئا ) ثم ذكر من دلائل ذلك وحججه ما قد يذكر بعضه إن شاء الله تعالى عند الكلام على ما ذكره الرازي من الأدلة.

التالي السابق


الخدمات العلمية