الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        115 - الحديث الخامس : عن جابر بن عبد الله { أن معاذ بن جبل : كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة . ثم يرجع إلى قومه ، فيصلي بهم تلك الصلاة } .

                                        التالي السابق


                                        اختلف الفقهاء في جواز اختلاف نية الإمام والمأموم على مذاهب . أوسعها : الجواز مطلقا . فيجوز أن يقتدي المفترض بالمتنفل وعكسه ، والقاضي بالمؤدي وعكسه ، سواء اتفقت الصلاتان أم لا ، إلا أن تختلف الأفعال الظاهرة . وهذا مذهب الشافعي .

                                        [ ص: 299 ] الثاني : مقابله ، وهو أضيقها . وهو أنه لا يجوز اختلاف النيات ، حتى لا يصلي المتنفل خلف المفترض والثالث : أوسطها ، أنه يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض ، لا عكسه . وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك . ومن نقل عن مذهب مالك مثل المذهب الثاني فليس بجيد . فليعلم ذلك . وحديث معاذ : استدل به على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل . وحاصل ما يعتذر به عن هذا الحديث ، لمن منع ذلك من وجوه :

                                        أحدها : أن الاحتجاج به من باب ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم . وشرطه : علمه بالواقعة . وجاز أن لا يكون علم بها ، وأنه لو علم لأنكر . وأجيبوا على ذلك بأنه يبعد - أو يمتنع - في العادة : أن لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك من عادة معاذ . واستدل بعضهم - أعني المانعين - برواية عمرو بن يحيى المازني عن معاذ بن رفاعة الزرقي { أن رجلا من بني سلمة يقال له : سليم ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنا نظل في أعمالنا . فنأتي حين نمسي ، فنصلي ، فيأتي معاذ بن جبل ، فينادي بالصلاة . فنأتيه ، فيطول علينا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا معاذ ، لا تكن أو لا تكونن - فتانا ، إما أن تصلي معي ، وإما أن تخفف عن قومك } قال : فقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : يدل على أنه عند رسول الله كان يفعل أحد الأمرين ، إما الصلاة معه ، أو بقومه ، وأنه لم يكن يجمعهما . لأنه قال : " إما أن تصلي معي " أي ولا تصل بقومك " وإما أن تخفف بقومك " أي ولا تصل معي .

                                        الوجه الثاني : في الاعتذار : أن النية أمر باطن لا يطلع عليه إلا بالإخبار من الناوي . فجاز أن تكون نيته مع النبي صلى الله عليه وسلم الفرض . وجاز أن تكون النفل ، ولم يرد عن معاذ ما يدل على أحدهما . وإنما يعرف ذلك بإخباره . [ ص: 300 ] وأجيب عن هذا بوجوه :

                                        أحدها : أنه قد جاء في الحديث رواية ذكرها الدارقطني فيها " فهي لهم فريضة ، وله تطوع .

                                        الثاني : أنه لا يظن بمعاذ أنه يترك فضيلة فرضه خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي بها مع قومه .

                                        الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة } فكيف يظن بمعاذ - بعد سماع هذا - أن يصلي النافلة من قيام المكتوبة ؟ واعترض بعض المالكية على الوجه الأول بوجهين :

                                        أحدهما : لا يساوي أن يذكر ، لشدة ضعفه .

                                        والثاني : أن هذا الكلام - أعني قوله " فهي لهم فريضة وله تطوع " - ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم . فيحتمل أن يكون من كلام الراوي ، بناء على ظن أو اجتهاد ، ولا يجزم به . وذكر معنى هذا أيضا بعض الحنفية ممن له شرب في الحديث ، وقال ما حاصله : إن ابن عيينة روى هذا الحديث أيضا ، ولم يذكر هذه اللفظة . والذي ذكرها . هو ابن جريج . فيحتمل أن تكون من قوله ، أو قول من روى عنه ، أو قول جابر . وأما الجواب الثاني : ففيه نوع ترجيح ، ولعل خصومهم يقولون فيه : إن هذا إنما يكون عند اعتقاده الجواز لذلك . فلم قلتم بأنه كان يعتقده ؟ وأما الجواب الثالث : فيمكن أن يقال فيه : إن المفهوم أن لا يصلي نافلة غير الصلاة التي تقام ، لأن المحذور : وقوع الخلاف على الأئمة ، وهذا المحذور منتف مع الاتفاق في الصلاة المقامة . ويؤيد هذا : الاتفاق من الجمهور على جواز صلاة المتنفل خلف المفترض ، ولو تناوله النهي المستفاد من النفي : لما جاز جوازا مطلقا .

                                        الوجه الثالث من الاعتذار : ادعاء النسخ وذلك من وجهين :

                                        أحدهما : أنه يحتمل أن يكون ذلك حين كانت الفرائض تقام في اليوم مرتين ، حتى نهي عنه . وهذا الوجه منقول المعنى عن الطحاوي . وعليه اعتراض [ ص: 301 ] من وجهين :

                                        أحدهما : طلب الدليل على كون ذلك كان واقعا - أعني صلاة الفريضة في اليوم مرتين فلا بد من نقل فيه .

                                        والثاني : أنه إثبات للنسخ بالاحتمال .

                                        الوجه الثاني مما يدل على النسخ . ما أشار إليه بعضهم ، دون تقرير حسن له . ووجه تقريره : أن إسلام معاذ متقدم ، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعده سنتين من الهجرة صلاة الخوف غير مرة على وجه وقع فيه مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية للصلاة في غير حالة الخوف . فيقال : لو جاز صلاة المفترض خلف المتنفل لأمكن إيقاع الصلاة مرتين على وجه لا يقع فيه المنافاة والمفسدات في غير هذه الحالة . وحيث صليت على هذا الوجه ، مع إمكان دفع المفسدات - على تقدير جواز صلاة المفترض خلف المتنفل - دل على أنه لا يجوز ذلك . وبعد ثبوت هذه الملازمة : يبقى النظر في التاريخ وقد أشير بتقدم إسلام معاذ إلى ذلك ، وفيه ما تقدمت الإشارة إليه .

                                        الوجه الرابع من الاعتذار عن الحديث : ما أشار إليه بعضهم ، من أن الضرورة دعت إلى ذلك ، لقلة القراء في ذلك الوقت ، ولم يكن لهم غنى عن معاذ ولم يكن لمعاذ غنى عن صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يحتمل أن يريد به قائله معنى النسخ ، فيكون كما تقدم . ويحتمل أن يريد : أنه مما أبيح بحالة مخصوصة ، فيرتفع الحكم بزوالها ، ولا يكون نسخا . وعلى كل حال : فهو ضعيف لعدم قيام الدليل على تعين ما ذكره هذا القائل علة لهذا الفعل ، ولأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة . ليس حفظته بقليل ، وما زاد على الحاجة من زيادة القراءة : فلا يصلح أن يكون سببا لارتكاب ممنوع شرعا ، كما يقوله هذا المانع . فهذا مجامع ما حضر من كلام الفريقين ، مع تقرير لبعضه فيما يتعلق بهذا [ ص: 302 ] الحديث ، وما زاد على ذلك من الكلام على أحاديث أخر ، والنظر في الأقيسة فليس من شرط هذا الكتاب .




                                        الخدمات العلمية