الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 50 ] ( الفرق الخامس والستون بين قاعدة ما يثاب عليه من الواجبات وبين قاعدة ما لا يثاب عليه منها وإن وقع ذلك واجبا )

اعلم أن المأمورات قسمان ما صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون ورد الغصوب ودفع الودائع ونفقات الزوجات والأقارب والدواب ونحو ذلك صورة هذا الفعل تحصل مقصودة وإن لم يحصل به التقرب فإذا فعل ذلك من غير قصد ولا نية وقع ذلك واجبا مجزئا ولا يلزم فيه الإعادة ولا ثواب فيه حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى فإن فعله غير قاصد امتثال أمر الله تعالى ولا عالم به لم يحصل له ثواب وإن سد الفعل مسده ووقع واجبا ومن هذا الباب النية لا يقصد بها التقرب وتقع واجبة ولا تفتقر إلى نية أخرى وكذلك النظر الأول أفضى إلى العلم بإثبات الصانع لا يثاب عليه ؛ لأنه لا يقصد به التقرب [ ص: 51 ] والقسم الآخر لا يقع واجبا إلا مع النية والقصد كالصلاة والصيام والحج والطهارات وجميع أنواع العبادات التي يشترط فيها النيات فهذا القسم إذا وقع بغير نية لا يعتد به ولا يقع واجبا ولا يثاب عليه وإذا وقع منويا على الوجه المشروع كان قابلا للثواب وهو سبب شرعي له من حيث الجملة غير أن هاهنا قاعدة وهي أن القبول غير الإجزاء وغير الفعل الصحيح فالمجزئ من الأفعال هو ما اجتمعت شرائطه وأركانه وانتفت موانعه فهذا يبرئ الذمة بغير خلاف ويكون فاعله مطيعا بريء الذمة فهذا أمر لازم مجمع عليه ، وأما الثواب عليه فالمحققون على عدم لزومه وأن الله تعالى قد يبرئ الذمة بالفعل ولا يثيب عليه في بعض الصور وهذا هو معنى القبول ويدل على ذلك أمور أحدها :

قوله تعالى حكاية عن ابني آدم { إنما يتقبل الله من المتقين } لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر مع أن قربانه كان على وفق الأمر ويدل عليه أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى ولو أن الفعل مختل في نفسه لقال له إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح ؛ لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول فحيث عدل عنه دل ذلك على أن الفعل كان صحيحا مجزئا وإنما انتفى القبول لأجل انتفاء التقوى فدل ذلك على أن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برئت الذمة به وصح في نفسه [ ص: 52 ] وثانيها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } فسؤالهما القبول في فعلهما مع أنهما صلوات الله عليهما وسلامه لا يفعلان إلا فعلا صحيحا يدل على أن القبول غير لازم من الفعل الصحيح ولذلك دعوا به لأنفسهما .

وثالثها : الحديث الصحيح خرجه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أما من أسلم وأحسن في إسلامه فإنه يجزى بعمله في الجاهلية والإسلام } فاشترط في الجزاء الذي هو الثواب أن يحسن في الإسلام والإحسان في الإسلام هو التقوى وهو يرد على من قال في قوله تعالى { إنما يتقبل الله من المتقين } أن المراد المؤمنون ؛ لأنه عليه السلام صرح بالإسلام ثم ذكر الإحسان فيه .

ورابعها : قوله عليه السلام في الأضحية لما ذبحها { اللهم تقبل من محمد وآل محمد } فسأل عليه السلام القبول مع أن فعله في الأضحية كان على وفق الشريعة فدل ذلك على أن القبول [ ص: 53 ] وراء براءة الذمة والإجزاء وإلا لما سأله عليه السلام فإن سؤال تحصيل الحاصل لا يجوز .

وخامسها : أنه لم يزل صلحاء الأمة وخيارها يسألون الله تعالى القبول في العمل ولو كان ذلك طلبا للصحة والإجزاء لكان هذا الدعاء إنما يحسن قبل الشروع في العمل فيسأل الله تعالى تيسير الأركان والشرائط وانتفاء الموانع أما بعد الجزم بوقوعها فلا يحسن ذلك فدلت هذه الوجوه على أن القبول غير الإجزاء وغير الصحة وأنه الثواب .

وسادسها : قوله عليه السلام { إن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وإن منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها } فحمله الصوفية وقليل من الفقهاء على عدم الإجزاء وأنه تجب الإعادة إذا غفل عن صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم { ليس للمؤمن من صلاته إلا ما عقل منها } وحكى الغزالي الإجماع في إجزائها إذا علم عدد ركعاتها وأركانها وشرائطها وإن كان غير مشتغل بالخشوع والإقبال عليها .

وقال أكثر الفقهاء إن المراد بالثلث وبالربع ونحوه الثواب لا الإجزاء والصحة فظهر حينئذ أن القبول غير الإجزاء وأن بعض الواجبات يثاب عليها دون بعض وهو المقصود من الفرق إذا تقرر الفرق فالظاهر أن وصف التقوى شرط في القبول بعد الإجزاء والتقوى هاهنا ليس محمولا على المعنى اللغوي وهو مجرد الاتقاء للمكروه من حيث الجملة فإن الفسقة في عرف الشرع لا يسمون أتقياء ولا من المتقين ولو اعتبرنا المعنى اللغوي لقيل لهم ذلك بل التقوى في [ ص: 54 ] عرف الشرع المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات حتى يكون ذلك الغالب على الشخص ، هذا هو الظاهر وإذا حصل هذا الوصف ينبغي أن يعتقد أيضا أن القبول غير لازم بل المحل قابل له لحصول الشرط وأن القبول مشروط بالتقوى ولا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط ويدل على أن المحل يبقى قابلا للقبول من غير لزومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالقبول مع أنه سيد المتقين وكذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والمدعو به لا بد وأن يكون بصدد الوقوع وعدمه ؛ إذ لو تعين وقوعه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل وهو غير جائز فتعين أن يكون الثواب يمكن حصوله وعدم حصوله [ ص: 55 ] وعلى هذه المدارك وهذه التقادير يكون قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } مشروطا بالتقوى فإن أمثال العشر هي المثوبات ولا تحصل إلا للمتقين ، وكذلك قوله عليه السلام { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام } فإن هذه الألف والزائد عليها هي مثوبات تتضاعف ، وقوله عليه السلام { صلاة في المسجد الحرام خير من ألف صلاة في غيره وصلاة في بيت المقدس بستمائة صلاة } وقوله تعالى { والله يضاعف لمن يشاء } يقتضي ما تقدم من التقرير أن يكون هذا كله مشروطا بالتقوى وقوله عليه السلام { صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس أو سبع وعشرين درجة } فتأمل ذلك فإن هذه الظواهر كلها تقتضي المثوبات مطلقا وما تقدم من التقدير يقتضي أنها لا تحصل إلا بالتقوى فيتعين رد أحد الظاهرين إلى الآخر وأن يجمع بينهما على الوجه الأسد وقد بينت لك وجه التعارض ووجه الجمع فتأمل ذلك فهو موضع صعب مشكل والذي رأيت عليه جماعة من المحققين هو ما ذكرته لك فتأمله .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الخامس والستون بين قاعدة ما يثاب عليه من الواجبات وبين قاعدة ما لا يثاب عليه منها وإن وقع واجبا اعلم أن المأمورات قسمان ما صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون ورد المغصوب ودفع الودائع ونفقات الزوجات والأقارب والدواب وغير ذلك إلى منتهى قوله وكذلك النظر الأول المفضي إلى العلم بثبوت الصانع لا يثاب عليه ؛ لأنه لا يقصد به التقرب ) قلت ما قاله في أداء الديون وشبهه ومن أنه لا ثواب فيه حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى إن أراد أنه لا بد من استحضار نية الامتثال ولا يكتفي بنية أداء الديون ففي ذلك نظر فإن الذي يؤدي دينه لا يخلو أن ينوي بأدائه امتثال أمر الله تعالى بذلك أو لا فإن نوى ذلك فلا نزاع في الثواب وإن لم ينو امتثال أمر الله تعالى فلا يخلو من أن ينوي سببا للأداء غير الامتثال كتخوفه أن لا يداينه أحد إذا عرف بالامتناع من الأداء وما أشبه ذلك أو لا فإن نوى بالأداء شيئا غير الامتثال فلا نزاع أيضا في عدم الثواب .

وإن عرى عن نية الامتثال ونية سبب غيره ولم ينو إلا مجرد أداء دينه فلقائل أن يقول لا يحرم صاحب هذه الحالة الثواب استدلالا بسعة بابه والله أعلم وما قاله من أن النية والنظر الأول لا ينوي بهما التقرب صحيح في النظر الأول لعدم العلم بالمتقرب إليه وغيره صحيح في النية فإن نية الظهر مثلا يمكن فيه التقرب بها ؛ لأن الشارع جعلها شرطا في صحة الصلاة والشرط كالركن فكما ينوي الركن ينوي الشرط ولا مانع من ذلك لا في النية ولا في غيرها وما ذكر من التسلسل لا يلزم ؛ لأنه لم يشرع فيه نية التقرب بالنية فلا تسلسل والله تعالى أعلم وما قاله من أنه لا ثواب فيهما فيه نظر ؛ لأن الدليل على اشتراط النية في الأعمال إنما هو حديث { إنما الأعمال بالنيات } وما في معناه ومطلقه مقيد [ ص: 51 ] بإمكان النيات فبقي محل امتناعها غير متناول له دليل اشتراطها فيستدل على إثبات الثواب في النية والنظر الأول بقاعدة سعة باب الثواب إذ لا معارض لذلك والله أعلم .

قال ( شهاب الدين والقسم الآخر لا يقع واجبا إلا مع النية والقصد كالصلاة والصيام والحج إلى قوله وهو سبب شرعي له من حيث الجملة ) قلت ما قاله في هذا الفصل صحيح .

قال ( غير أن هاهنا قاعدة وهي أن القبول غير الإجزاء وغير الفعل الصحيح فالمجزئ من الأفعال هو ما اجتمعت شرائطه وأركانه وانتفت موانعه وهذا يبرئ الذمة بغير خلاف ويكون فاعله مطيعا بريء الذمة فهذا أمر لازم مجمع عليه .

وأما الثواب عليه فالمحققون على عدم لزومه وأن الله تعالى قد يبرئ الذمة بالفعل ولا يثيب عليه في بعض الصور وهذا هو معنى القبول ويدل على ذلك أمور أحدهما قوله تعالى حكاية عن ابني آدم { إنما يتقبل الله من المتقين } إلى منتهى قوله فدل ذلك على أن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برئت الذمة به وصح في نفسه ) قلت المسألة قطعية لا يكفي فيها مثل هذا الدليل وعلى تسليم أنها ظنية لقائل أن يقول ليس المعنى الذي تأوله من الآية بظاهر لاحتمال الآية أن يريد بالتقوى الإيمان على الإطلاق والإيمان الموافي عليه وعلى تسليم ظهور تأويله لعله كان شرعا لهم اشتراط عدم العصيان في القبول ثم جميع الآيات والأحاديث المتضمنة لوعد المطيع بالثواب معارضة لذلك الظاهر إن قلنا [ ص: 52 ] إن شرع من قبلنا شرع لنا .

قال ( ثانيها قوله جل جلاله حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } فسؤالهما القبول في فعلهما مع أنهما صلوات الله عليهما وسلامه لا يفعلان إلا فعلا صحيحا يدل على أن القبول غير لازم في الفعل في الصحيح ولذلك دعوا به لأنفسهما ) قلت يحتمل أن يكون سؤالهما ذلك على تقدير علمهما بعاقبة أمرهما ليقتدي بهما من لا يعلم عاقبة أمره من أتباعهما وهذا الاحتمال حال لا مقالي والاحتمالات الحالية لا تفاوت فيها حتى يكون بعضها أظهر من بعض فيستدل بالظاهر منها بخلاف الحالات المقالية فإنه تكون مستوية في المحتملات وغيره مستوية في الظاهر والمؤولات .

قال ( وثالثها الحديث الصحيح خرجه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أما من أسلم وأحسن في إسلامه فإنه يجزى بعمله في الجاهلية والإسلام } فاشترط في الجزاء الذي هو الثواب أن يحسن في إسلامه والإحسان في الإسلام هو التقوى وهو يرد على من قال في قوله تعالى { إنما يتقبل الله من المتقين } إن المراد المؤمنون ؛ لأنه عليه السلام صرح بالإسلام ثم ذكر الإحسان فيه )

قلت يحتمل أن يريد بالإحسان الموافاة على الإيمان لا اجتناب العصيان ، والموافاة على الإيمان هو شرط ثبوت الأعمال الذي لا شرط لثبوت الأعمال سواه فكل ما ورد من الآيات والأخبار ومما يقتضي اشتراط أمر زائد على صحة العمل وبراءة الذمة فهو متأول بأنه المراد هذا إن سلم ظهور آية أو حديث في غيره وذلك غير مسلم .

قال ( ورابعهما قوله صلى الله عليه وسلم في الأضحية لما ذبحها صلى الله عليه وسلم { اللهم تقبل من محمد وآل محمد } فسأل عليه الصلاة والسلام القبول إلى قوله [ ص: 53 ] فإن سؤال تحصيل الحاصل لا يجوز ) قلت الاحتمال في قوله صلى الله عليه وسلم ذلك كالاحتمال في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام .

قال ( وخامسها أنه لم يزل صلحاء الأمة وخيارها يسألون الله تعالى القبول في العمل إلى آخره ) قلت يحتمل أنهم طلبوا حصول الشرط الذي هو الموافاة على الإيمان لعدم علمهم بذلك أو طلبوا المسامحة في إغفال بعض شروط الأعمال لعدم علمهم بتحصيل ذلك على الكمال .

قال ( وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام { أن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وأن منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها } إلى آخر قوله وهو المقصود من الفرق ) قلت قوله وقول من قال مثله أن المراد بهذا الحديث الثواب مع تقدير كمال شروط الصلاة وجميع أوصافها خلاف ظاهر الحديث بدليل قوله صلى الله عليه وسلم { وأن منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها } إذ لو كانت مستوفية لشروطها وأوصافها لم يكن لتشبيهها بالثوب الخلق وجه ، ولا ريب أن هذا الحديث إنما هو مغزاه التحذير من التهاون بشروطها والتحريض على مراعاة أحوالها فلا دليل له ولا لغيره في هذا الحديث على ما أراد لا بظاهر ولا بنص ألبتة .

قال ( وإذا تقرر الفرق فالظاهر أن وصف التقوى شرط في القبول بعد الإجزاء إلى منتهى قوله [ ص: 54 ] حتى يكون ذلك الغالب على الشخص هذا هو الظاهر ) قلت ما قاله من أن الظاهر في أن التقوى شرط في القبول مسلم وما قاله من أن وصف التقوى في العرف الشرعي المبالغة في اجتناب المنهيات وفعل المأمورات مسلم أيضا إلا أنه ليس المراد بالتقوى المشترطة في القبول التقوى العرفية المذكورة لمعارضة تلك الأدلة المتكاثرة المتظافرة بترتب الثواب على الأعمال الصحيحة ، وليس كون التقوى عرفا ما فسرها به بالمقاوم في الظهور لتلك الأدلة هذا إن لم تقل بانتهاء تلك الأدلة إلى القطع بلزوم ترتب الثواب على الأعمال المستوفية لشروطها وأركانها والقطع بذلك هو الصحيح عندي ومن تتبع الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأمل مساق الكلام فيه علم صحة ما ذهب إليه والله أعلم .

قال ( وإذا حصل هذا الوصف ينبغي أن يعتقد أيضا أن القبول غير لازم إلى منتهى قوله فتعين أن يكون الثواب يمكن حصوله وعدم حصوله ) قلت ما قاله من أنه لا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط صحيح ولكن لا يلزم من ذلك عدم حصول الثواب بل يلزم حصوله لا لمجرد حصول الشرط بل للأدلة الدالة على حصوله وما استدل به من كون الرسول عليه السلام دعا بالقبول قد تقدم تأويله وما قاله من أن المدعو به لا بد أن يكون بصدد الوقوع وعدمه إن أراد باعتبار علمنا فمسلم وإن أراد مطلقا فغير مسلم ؛ لأن علم الله تعالى قد تعلق أزلا بما يكون وما لا يكون وما قاله من أنه لو تعين وقوعه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل فكلام ليس له حاصل فإن الدعاء مشروع لا شك فيه والمدعو به مستقر في علم الله تعالى حصوله أو عدم حصوله فعلى تقدير تعلق علم الله تعالى بحصوله يكون الدعاء طلبا لتحصيل الحاصل وعلى تقدير تعلق علم الله تعالى بعدم حصوله يكون الدعاء طلبا لتحصيل الممتنع وكلا الأمرين في بادي الرأي محال .

وذلك ليس بصحيح بل الصحيح أنه لا يستلزم الطلب عقلا جواز المطلوب بل يجوز طلب الجائز وغير الجائز فلا فرق في العقل بين طلب تحصيل الواقع الحاصل وبين طلب تحصيل غيره فإن ثبت في ذلك فرق شرعي فذاك [ ص: 55 ] وإلا فلا فرق بوجه .

قال ( وعلى هذه المدارك وهذه التقادير يكون قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } مشروطا بالتقوى إلى منتهى قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس أو سبع وعشرين درجة } قلت ما قاله من أن ذلك كله مشروط بالتقوى مسلم لكن بمعنى الموافاة على الإيمان لا بمعنى مجانبة العصيان .

قال ( فتأمل ذلك فإن هذه الظواهر كلها تقتضي المثوبات مطلقا وما تقدم ومن التقرير يقتضي أنها لا تحصل إلا بالتقوى ) قلت لا يقاوم ما تقدم من التقرير تلك الظواهر على تسليم أنها لم تبلغ القطع على أن الصحيح أنها قد بلغته فإن الظواهر إذا تظاهرت وتكاثرت ولم يعارضها سواها حصل القطع بمعناها وهذه الظواهر وقد تظاهرت وتكاثرت ولم يعارضها سواها فإن ما ذكره معارضا ليس بمعارض لاستواء احتمالاته على ما سبق بيانه .

قال ( فيتعين رد أحد الظاهرين إلى الآخر والجمع بينهما على الوجه الأسد ) قلت إن سلم عدم القطع فليس الوجه الأسد ما ذكره واختاره وإن لم يسلم فلا وجه لقوله الأسد .

قال ( وقد بينت لك وجه التعارض ووجه الجمع فتأمل ذلك فهو موضع صعب مشكل ) قلت قد تبين ما قال لكنه ليس بصحيح وتأملته كما أمر ولم أجد ما وجد من الصعوبة والإشكال ولله الحمد ذي المنة والإفضال .

قال ( والذي رأيت عليه جماعة من المحققين هو ما ذكرته فتأمله ) قلت لعلهم محققون في غير هذه المسألة أما في هذه فلا



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الخامس والستون بين قاعدة ما يثاب عليه من الواجبات وبين قاعدة ما لا يثاب عليه منها وإن وقع ذلك واجبا )

اعلم أن الفرق بين هاتين القاعدتين مبني على ما للأصل من أن القبول غير الإجزاء وغير الفعل الصحيح وأن بعض الواجبات يثاب عليها ويكون مقبولا دون بعض ؛ لأن الله تعالى قد يبرئ الذمة بالفعل ولا يثيب عليه وإن كان مستكملا لشروطه بناء على أن شرط تحقيق القبول والثواب أمران أحدهما قصد الامتثال بالعمل وثانيهما التقوى العرفية وذلك أن المأمورات قسمان الأول ما صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون ورد الغصوب ودفع الودائع ونفقات الزوجات والأقارب والدواب ونحو ذلك فيسد فعله مسده ويقع واجبا مجزئا لا يلزم فيه الإعادة وإن لم يكن قصد به امتثال أمر الله تعالى [ ص: 73 ] ولا عالما به إلا أنه لا يثاب عليه ولا يكون مقبولا إلا إذا نوى به امتثال أمر الله تعالى ومن هذا الباب النية لا يقصد بها التقرب وتقع واجبة ولا تفتقر إلى نية أخرى لئلا يلزم التسلسل ، وكذلك النظر الأول المفضي إلى العلم بإثبات الصانع لا يثاب عليه ؛ لأنه لا يقصد به التقرب لما مر في الفرق الثامن عشر والقسم الثاني ما لا تكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كالصلاة والصيام والحج والطهارات وجميع أنواع العبادات التي يشترط فيها النيات فلا يقع واجبا مجزئا بحيث لا تلزم فيه الإعادة إلا إذا وقع منويا على الوجه المشروع غير أن ها هنا قاعدة وهي أن الثواب والقبول غير لازم لصحة الفعل وإجزائه كما عليه المحققون ويدل على ذلك أمور أحدها :

أن ابني آدم لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر مع أن قربانه كان على وفق الأمر بدليل أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى كما حكاه الله تعالى عنه في كتابه العزيز بقوله تعالى { إنما يتقبل الله من المتقين } إذ لو لم يكن على وفق الأمر بل كان مختلا في نفسه لقال له إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح ؛ لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول فدل عدوله عنه على أن الفعل كان صحيحا مجزئا وإنما انتفى عنه القبول لأجل انتفاء شرطه الذي هو التقوى في عرف الشرع وأن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برأت الذمة به وصح في نفسه .

وثانيها : أن سؤال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام القبول في فعلهما كما حكاه الله تعالى عنهما بقوله { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } وهما لا يفعلان إلا فعلا صحيحا يدل على أن القبول غير لازم للفعل الصحيح بل المحل قابل له لحصول شرطه الذي هو التقوى في عرف الشرع إذ لا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط .

وثالثها : أن اشتراطه صلى الله عليه وسلم في الجزاء الذي هو الثواب أن يحسن في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم فيما خرجه مسلم { أما من أسلم وأحسن في إسلامه فإنه يجزى بعمله في الجاهلية والإسلام } يدل على أن الإحسان في الإسلام هو التقوى في عرف الشرع التي هي المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات لا بالمعنى اللغوي الذي هو مجرد الاتقاء للمكروه من حيث الجملة حتى يصح قول من قال المراد بالمتقين في [ ص: 74 ] قوله تعالى { إنما يتقبل الله من المتقين } المؤمنون ؛ لأنه عليه السلام صرح بالإسلام ثم ذكر الإحسان فيه .

ورابعها : أن سؤاله صلى الله عليه وسلم القبول في الأضحية لما ذبحها بقوله صلى الله عليه وسلم { اللهم تقبل من محمد وآل محمد } مع أن فعله صلى الله عليه وسلم في الأضحية كان على وفق الشريعة قطعا يدل على أن القبول وراء براءة الذمة والإجزاء وأنه لم يحصل وإن حصل شرطه الذي هو التقوى في عرف الشرع ؛ لأنه سيد المتقين وإلا لما سأله عليه السلام فإن سؤال تحصيل الحاصل لا يجوز .

وخامسها : أن صلحاء الأمة وخيارها لم يزالوا يسألون الله تعالى القبول في العمل بعد فعله وفي أثنائه ولو كان ذلك طلبا للصحة والإجزاء لكان إنما يحسن قبل الشروع في العمل فيسأل الله تعالى تيسير الأركان والشرائط وانتفاء الموانع ، وأما بعد الجزم بوقوعها فإنما يحسن إذا كان القبول غير الإجزاء وغير الصحة وأنه الثواب .

وسادسها : أن حمل الصوفية وقليل من الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم { إن من الصلاة لما يقبل الله نصفها وثلثها وربعها وأن منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها } على أن المراد عدم الإجزاء وأنه تجب الإعادة إذا غفل عن صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم { ليس للمؤمن من صلاته إلا ما عقل منها } مع حكاية الغزالي الإجماع في إجزائها إذا علم عدد ركعاتها وأركانها وشرائطها وإن كان غير مشتغل بالخشوع والإقبال عليها .

وقال أكثر الفقهاء : إن المراد بالثلث وبالربع ونحوه الثواب والإجزاء لا الصحة ظاهر في أن القبول غير الإجزاء وأن بعض الواجبات يثاب عليها دون بعض وهو المقصود من الفرق وكون ما ذكر من المدارك والتقارير يقتضي أن المثوبات لا تحصل إلا بالتقوى في عرف الشرع وإن عارضه ظواهر نحو قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } وقوله صلى الله عليه وسلم { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام } ، وقوله صلى الله عليه وسلم { صلاة في المسجد الحرام خير من ألف ألف صلاة في غيره وصلاة في بيت المقدس بستمائة صلاة } وقوله تعالى { والله يضاعف لمن يشاء } ، وقوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس أو سبع وعشرين درجة } من حيث إن هذه الظواهر تقتضي حصول المثوبات مطلقا فإن أمثال [ ص: 75 ] العشر حسنات والألف صلاة والزائد عليها والستمائة صلاة والمضاعفة لمن يشاء تعالى والخمس أو السبع والعشرين درجة هي عبارة عن مثوبات تتضاعف إلا أنه يتعين رد أحد الظاهرين إلى الآخر وأن يجمع بينهما على الوجه الأسد بحمل هذه الظواهر على ما تقتضيه تلك المدارك والتقارير من اشتراط التقوى في الجميع هذا ما للأصل ، وحاصله أن ترتب الثواب على الأعمال المستوفية لشروطها وأركانها مشروط كما هو مقتضى تلك المدارك والتقارير بالتقوى العرفية التي هي المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات وإجزائه حيث قال : الصحيح عندي خلافه وإن قال : إنه رأى عليه جماعة من المحققين أو لعلهم محققون في غير هذه المسألة أما في هذه فلا ؛ وذلك لأن الدليل على القطع فتتعارض ظواهر الأدلة المتكاثرة المتظافرة بترتب الثواب على الأعمال الصحيحة بدون اشتراط التقوى العرفية ويتعين حمل هذه الظواهر على اشتراط التقوى العرفية جريا على قاعدة حمل المطلق على المقيد .

لكن تعقبه ابن الشاط أولا في قوله بعدم ترتيب الثواب على صحة العمل بلزوم ترتب الثواب على الأعمال المستوفية لشروطها وأركانها هو أن ما تقتضيه تلك المدارك والتقارير من اشتراط التقوى العرفية لا يقاوم تلك الظواهر على تسليم أنها لم تبلغ القطع حتى يتعين دفع التعارض والجمع بينهما على قاعدة حمل المطلق على المقيد على أن الصحيح أن الظواهر المذكورة قد بلغت القطع فإنها قد تظافرت وتكاثرت ولم يعارضها سواها وليس ما ذكر أنه معارض بمعارض لاستواء احتمالاته أما قوله تعالى حكايته عن ابني آدم { إنما يتقبل الله من المتقين } فليس المعنى الذي تأوله به بظاهر لاحتمال الآية أن يكون المراد بالتقوى الإيمان على الإطلاق والإيمان الموافي عليه وعلى تسليم ظهور تأويله لعله كان شرعا لهم اشتراط عدم العصيان في القبول وكون شرع من قبلنا شرع لنا محله إذا لم يعارض وجميع الآيات والأحاديث المتضمنة لوعد المطيع بالثواب معارضة لذلك .

وأما قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } فيحتمل أن يكون سؤالهما ذلك على تقدير علمهما بعاقبة أمرهما ليقتدي بهما من لا يعلم عاقبة أمره فيتبعهما في ذلك وهذا [ ص: 76 ] الاحتمال حالي لا مقالي والاحتمالات الحالية لا تفاوت فيها حتى يكون بعضها أظهر من بعض فيستدل بالظاهر منها بخلاف الحالات المقالية فإنه تكون مستوية في المحتملات وغير مستوية في الظاهر والمؤولات ، وأما ما خرجه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم { أما من أسلم وأحسن في إسلامه فإنه يجزى بعمله في الجاهلية والإسلام } فيحتمل أن يريد بالإحسان الموافاة على الإيمان الذي لا شرط لثبوت الأعمال سواه بل لو سلم ظهور آية أو حديث في اشتراط غيره لكان كل ما ورد من الآيات والأخبار مما يقتضي اشتراط أمر زائد على صحة العمل وبراءة الذمة متأولا بأنه المراد لاجتناب المعاصي مع أن ذلك غير مسلم .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الأضحية لما ذبحها { اللهم تقبل من محمد وآل محمد } فالاحتمال فيه كالاحتمال في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأما كون صلحاء الأمة وخيارها لم يزالوا يسألون الله تعالى القبول في العمل فيحتمل أنهم طلبوا حصول الشرط الذي هو الموافاة على الإيمان لعدم علمهم بذلك أو طلبوا المسامحة في إغفال بعض شروط الأعمال لعدم علمهم لتحصيل ذلك على الكمال .

وأما قول صلى الله عليه وسلم { إن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وإن منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها } فلا دليل له ولا لغيره فيه على ما أورد لا بظاهر ولا بباطن وذلك ؛ لأن ظاهره أن الصلاة لم تكن مستوفية لشروطها وأوصافها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم وإن منها لما يلف كما تلف إلخ إذ لو كانت مستوفية لشروطها وأوصافها لم يكن لشبهها بالثوب الخلق وجه .

ولا ريب أن مغزى هذا الحديث إنما هو التحذير من التهاون بشروطها والتحريض على مراعاة أحوالها فالقول بأن المراد به الثواب مع تقدير كمال شروط الصلاة وجميع أوصافها خلاف ظاهر الحديث كما علمت ينافي قوله إن أداء الديون وشبهه لا ثواب فيه حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى حيث قال : إن أراد به لا بد من استحضار نية الامتثال ولا يكتفي بمجرد نية أداء الديون فغير مسلم بل لقائل أن يقول لا يحرم صاحب هذه الحالة الثواب استدلالا بقاعدة سعة باب الثواب وإن أراد أنه لا ثواب له إذا نوى سببا للأداء غير الامتثال كتخوفه أن لا يداينه أحد إذا عرف بالامتناع من الأداء وما أشبه ذلك [ ص: 77 ] فمسلم إذ لا نزاع في عدم الثواب حينئذ لكنه لا ينفعه وثالثا في قوله إن النية والنظر الأول ولا ينوي بهما التقرب حيث قال : هذا صحيح في النظر الأول لعدم العلم بالمتقرب إليه وغير صحيح في النية فإن نية الظهر مثلا يمكن فيه التقرب بها ؛ لأن الشارع جعلها شرطا في صحة الصلاة والشرط كالركن فكما ينوي الركن ينوي الشرط ولا مانع من ذلك لا في النية ولا في غيرها ، ولا يلزم التسلسل إلا لو شرع نية التقرب بالنية من حيث ذاتها لا من حيث كونها شرطا فافهم .

ورابعا : في قوله إن النية والنظر لا ثواب فيهما حيث قال : يدل على إثبات الثواب فيهما قاعدة سعة باب الثواب ؛ إذ لا يعارضها حديث { إنما الأعمال بالنيات } وما في معناه ؛ لأن مطلقه مقيد بإمكان النيات فبقي محل امتناعها غير متناول له دليل اشتراطها فافهم ا هـ .

قلت : وقاعدة إن الأعمال لا تكون معتبرة حتى تقرن بها المقاصد مستمرة في باب خطاب التكليف خاصة لا في باب خطاب الوضع ، قال الإمام أبو إسحاق في موافقاته : وإذا عريت الأفعال والتروك عن المقاصد لم يتعلق بها الأحكام الخمسة ، والدليل عن ذلك أمور :

أحدها : ما ثبت من أن الأعمال بالنيات وهو أصل متفق عليه في الجملة والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة أما في غير ذلك فالقاعدة مستمرة وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا فكذلك ما كان مثلها .

والثاني : ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والنائم والصبي والمغمى عليه وأنها لا حكم لها في الشرع فلا يقال فيها جائز أو ممنوع أو واجب أو غير ذلك كما لا اعتبار بها من البهائم وفي القرآن { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال : قد فعلت ، وفي معناه روي الحديث أيضا { رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمغمى عليه حتى يفيق } فجميع هؤلاء لا قصد لهم وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم .

والثالث : الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق والمباح وإن كان لا تكليف فيه [ ص: 78 ] إلا تعليق التخيير ومتى صح تعلق التخيير صح تعلق الطلب وذلك يستلزم قصد المخبر وقد فرضناه غير قاصد هذا خلف .

وأما تعلق الغرامات والزكاة بالأطفال والمجانين وغير ذلك فإنه من قبيل خطاب الوضع لا خطاب التكليف الذي كلامنا فيه ، وأما تعلق خطاب التكليف بالسكران كما في قوله تعالى { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فإما ؛ لأنه لما أدخل السكر على نفسه كان كالقاصد لرفع الأحكام التكليفية فعومل بنقيض المقصود ولم يكن محجورا عليه كما حجر على الصبي والمجنون إلا في خصوص عقوده وبيوعه ، وإما ؛ لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة فصار استعماله تسببا في تلك المفاسد فيؤاخذه الشرع بها وإن لم يقصدها كما وقعت مؤاخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما وكما يؤاخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم ونظائر ذلك كثيرة ا هـ بتصرف فافهم .

وحاصل ما لابن الشاط أنه لم يكن في الشرع واجب صحيح مجزئ إلا وهو مقبول مثاب عليه كما هو مقتضى قاعدة سعة باب الثواب والآيات والأحاديث المتضمنة لوعد المطيع بالثواب بدون أدنى معارض صحيح سالم من الاحتمال وبالجملة ففي لزوم الثواب والقبول للعمل الصحيح المجزئ بناء على أن الشرط في الثواب والقبول هو التقوى بمعنى الإيمان الموافي عليه وعدم لزوم الثواب والقبول للعمل المذكور بناء على أن شرط الثواب والقبول أمر إن قصد الامتثال والتقوى العرفية التي هي المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات قولا ابن الشاط والشهاب ، وعلى الثاني تتحقق القاعدتان المذكورتان والفرق بينهما وعلى الأول لا تتحقق إلا قاعدة واحدة وهي أن كل عمل صحيح مجزئ يثاب عليه وهذا هو الظاهر فتأمل والله سبحانه وتعالى أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( فائدتان ) الأولى ما ذكر من المضاعفة صرح العلماء بأنه فيما يرجع إلى الثواب فقط ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد مكة أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى صلاة لم تجزه عنهما قطعا خلافا لما يغتر به بعض الجهلة أفاده شيخنا نقلا عن الوالد في حاشيته على كتابه توضيح المناسك ، ونقل الصاوي في مناسكه عن الحسن البصري في رسالته أن المضاعفة المذكورة في الحرم لا يختص بالصلوات بل [ ص: 79 ] كل حسنة يعملها العبد فيه بمائة ألف فمن صام فيه يوما كتب الله له صوم مائة ألف يوم ومن تصدق فيه بدرهم كتب الله له مائة ألف درهم صدقة ومن ختم القرآن فيه مرة واحدة كتب الله له مائة ألف ختمة بغيره ومن سبح الله تعالى فيه مرة كتب الله له مائة ألف مرة بغيره إلى غير ذلك من أعمال البر ا هـ .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفائدة الثانية ) قال الباجي : والذي تقتضيه الأحاديث الواردة في فضل المسجدين مسجد مكة ومسجد المدينة مخالفة حكم مسجد مكة لسائر المساجد وكذا مسجد الرسول ولا يعلم منها حكم مكة والمدينة في التفاضل إلا أن حديث حسنات الحرم بمائة ألف إذ أثيب صريح في أن نفس مكة أفضل من نفس المدينة كما في حاشية الوالد على كتابه توضيح المناسك قلت على أنا لا نسلم أن حديث حسنات الحرم إلخ صريح في ذلك لقول مالك رحمه الله تعالى إن أسباب التفضيل لا تنحصر في مزيد المضاعفة ألا ترى أن الصلوات الخمس بمنى عند التوجه بعرفة أفضل منها بمسجد مكة وإن انتفت عنها نعم إن ثبت حديث { خير بلد على وجه الأرض وأحبها إلى الله تعالى مكة } كما في مناسك الصاوي عن الحسن البصري في رسالته لأخيه كان صريحا في ذلك فتأمل والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية