الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 286 ] فصل وأما المصارف : فالواجب أن يبدأ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين العامة : كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة .

                فمنهم المقاتلة : الذين هم أهل النصرة والجهاد وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم ; حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء : هل هو مختص بهم أو مشترك في جميع المصالح ؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا إلا ما خص به نوع كالصدقات والمغنم .

                ومن المستحقين ذوو الولايات عليهم : كالولاة والقضاة والعلماء والسعاة على المال : جمعا وحفظا وقسمة ونحو ذلك .

                حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك . وكذا صرفه في الأثمان والأجور لما يعم نفعه : من سداد الثغور بالكراع والسلاح وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس : كالجسور والقناطر وطرقات المياه كالأنهار .

                ومن المستحقين : ذوو الحاجات ; فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدمون [ ص: 287 ] في غير الصدقات من الفيء ونحوه على غيرهم ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره منهم من قال : يقدمون ومنهم من قال : المال استحق بالإسلام فيشتركون فيه كما يشترك الورثة في الميراث . والصحيح أنهم يقدمون ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم ذوي الحاجات كما قدمهم في مال بني النضير وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس أحد أحق بهذا المال من أحد ; إنما هو الرجل وسابقته والرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وحاجته . فجعلهم عمر رضي الله عنه أربعة أقسام : الأول : ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال .

                الثاني : من يغني عن المسلمين في جلب المنافع لهم كولاة الأمور والعلماء الذين يجتلبون لهم منافع الدين والدنيا .

                الثالث : من يبلي بلاء حسنا في دفع الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم .

                الرابع : ذوو الحاجات .

                وإذا حصل من هؤلاء متبرع فقد أغنى الله به ; وإلا أعطي ما يكفيه أو قدر عمله . إذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة [ ص: 288 ] الرجل وبحسب حاجته في مال المصالح وفي الصدقات أيضا فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا في غنيمة أو ميراث .

                ولا يجوز للإمام أن يعطي أحدا ما لا يستحقه لهوى نفسه : من قرابة بينهما أو مودة ونحو ذلك ; فضلا عن أن يعطيه لأجل منفعة محرمة منه كعطية المخنثين من الصبيان المردان : الأحرار والمماليك ونحوهم والبغايا والمغنين والمساخر ونحو ذلك ; أو إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم .

                لكن يجوز - بل يجب - الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه وإن كان هو لا يحل له أخذ ذلك كما أباح الله تعالى في القرآن العطاء للمؤلفة قلوبهم من الصدقات وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم من الفيء ونحوه وهم السادة المطاعون في عشائرهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي الأقرع بن حابس سيد بني تميم وعيينة بن حصن سيد بني فزارة وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري سيد بني كلاب ومثل سادات قريش من الطلقاء : كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وعدد كثير .

                ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : [ ص: 289 ] { بعث علي وهو باليمن بذهيبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة : الأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن حصن الفزاري وعلقمة بن علاثة العامري سيد بني كلاب وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان . قال : فغضبت قريش والأنصار فقالوا : يعطي صناديد نجد ويدعنا : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني إنما فعلت ذلك لتأليفهم فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس فقال : اتق الله يا محمد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يتق الله إن عصيته ؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني قال : ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله ويرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد } .

                وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : { أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس : [ ص: 290 ]

                أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع     وما كان حصن ولا حابس
                يفوقان مرداس في المجمع     وما كنت دون امرئ منهما
                ومن يخفض اليوم لا يرفع

                قال : فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة
                } رواه مسلم و " العبيد " اسم فرس له .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية